بناة الثورة الصناعية الجديدة - المستقبل لقاء بين موهبة الاختراع وعقلية التنظيم

الرئيسية » تربية وتكوين » بناة الثورة الصناعية الجديدة – المستقبل لقاء بين موهبة الاختراع وعقلية التنظيم

يتسم هذا الكتاب بطابع مستقبلي، بمعنى أنه يطرح مقولاته عبر فصوله الثلاثة عشر من منظور يطلّ باستمرار على آفاق المستقبل، خاصة وقد انطلقت طروحات الكتاب من واقع الثورة الصناعية الأولى، ثورة الماكينة والقطار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بينما يفّصل الكتاب حديثه عما يصفه بأنه الثورة الصناعية الجديدة التي يظل محورها الأساسي هو ما توصلت إليه السنوات الأخيرة من القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين من إنجازات، بل هي فتوحات في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي دخلت حياة سكان العالم بفضل ما طرأ من تطوير مذهل أحياناً، على استخدامات الحاسوب الإلكتروني.

وما يتصل به من إمكانات غير مسبوقة من خلال شبكات الإنترنت والويب وما في حكمها، بهذا دخل العالم إلى العصر الرقمي الذي أتاح ظهور نخبة من نوابغ العقليات المبدعة في مجالات شتى، ومن هنا دخل العالم إلى ما يصفه الكتاب بأنه “ديمقراطية التغيير” فيما تحتاج هذه الظاهرة الديمقراطية إلى الجمع بين النبوغ العلمي باستخدام إمكانات الحواسيب وبين القدرة التنظيمية التي يتحول بها المخترعون إلى صانعين بمعنى مسؤولين عن وضع أطر التنظيم وعن ترجمة ثمار العلم والاختراع إلى أدوات عملية واقعية تظل في متناول أبسط قطاعات المجتمع الإنساني.

هي فترة زمنية قوامها 100 سنة من تاريخ إنجلترا والغرب على وجه الخصوص. قرن كامل عاشه الإنجليز وشهدوا خلال سنواته وقائع أحداث وإبداعات وتطورات كان من شأنها إضفاء تغييرات جذرية بحق على حياة الغرب بل وحياة سكان العالم بشكل عام. وتحمل هذه الفترة في الأدبيات العالمية الاسم التالي: “الثورة الصناعية”.

ويقصد بها وقائع التحول من نظام الإقطاع والإنتاج الزراعي والاعتماد على الجهد البشري العضلي بالذات إلى نظام لم تشهده البشرية من قبل على مر تاريخها الطويل.

هو نظام التحول إلى عصر الصناعة، واستخدام قدرات الآلة بدلاً من ذراع الإنسان، والتحول في أساليب الحركة والنقل والانتقال من ظهر الجواد إلى عربة ستيفنسون التي حملت اسم القطار بعد أن توصل إليه الإنجليزي روبرت ستيفنسون (1781، 1848) وأنجز به ما يمكن أن يوصف بأنه تثوير حراك المجتمع الإنساني.

وكان طبيعياً أن تنعكس ظاهرة التثوير هذه من إطارها المادي المتمثل في القطار ومن ثم في السيارة والطيارة، فضلاً عن اتخاذها الآلة الميكانيكية رمزاً له وتجسيداً لإنجازاته إلى حيث تمت ترجمة هذا كله على شكل ثورة شاملة غطت بدورها مجالات الفكر والأدب والهياكل الاجتماعية وأنماط السلوك الإنساني على السواء.

لكن ها هو العالم بات مع مطالع هذا القرن الواحد والعشرين، على وشك أن يشهد ظاهرة جديدة من شأنها أن تغيّر من حياة الناس بصورة جذرية، تماماً بقدر ما فعلت ظاهرة اختراع الماكينة وظهور قطار السكة الحديد منذ 180 سنة أو نحوها من عمر الزمان المعاصر.

إنها الثورة الصناعية الجديدة

هكذا يسميها مؤلف الكتاب الذي نقلّب صفحاته ونتعايش مع طروحاته في هذه السطور، الكتاب صادر في أميركا منذ عدة شهور، ومازال يحظى باهتمام النقاد والمحللين، لأن المؤلف أضفى على الموضوع لمسات شخصية بالدرجة الأولى.

الجد العجوز مخترعاً

لقد عمد المؤلف بالذات إلى أن يسرد على صفحات كتابه عدداً من الحكايات الشخصية، التي تناولت جهود وعادات وابتكارات مخترعين عايش المؤلف بعضهم عن كثب، ولعل هذا الجانب الشخصي هو الذي أوحى إليه بأن يخلع على كتابه عنواناً رئيسياً من كلمة واحدة هي: الصانعـــون، بمعنى الأفراد الذين حملوا على عواتقهم الفعل والتنفيذ والإنجاز.

نلاحظ منذ الفصول الأولى، أن المؤلف يطل على أحوال عالمنا من منظور المستقبل. وهذا المنظور هو الذي يدفعه إلى رصد وتحليل ظواهر التحول إلى ما أصبح يوصف بأنه العصر الرقمي الذي يُعد جهاز الحاسوب الإلكتروني، بكل تفرعاته وخوارقه، أداته الجوهرية.

وبكل ما أدى إليه الحاسوب، ومعه ثمار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من تغييرات، ليس فقط في الجوانب المادية من حياة البشر، ولكنها كانت بالذات تغييرات في طريقة تفكير البشر وانتهاجهم أسلوباً مستجداً مبتكراً بكل معنى في مقاربة المشكلات.

ولأن المرء هو ابن بيئته الأولى، فالمؤلف يحكي عن نشأته في بيت بولاية كاليفورنيا، حيث عايش الطفل كريس أندرسون جهود جده لأمه فريد هاوزر الذي كان قد هاجر إلى الولايات المتحدة من سويسرا منذ عام 1926 والتحق بالعمل مهندساً في استوديوهات مترو غولدين ماير السينمائية.

المؤلف يتوقف عند هذه المرحلة من سيرة الجد فيقول: كان جدّي أكثر من مجرد مهندس في شركة، كان ذلك بالنهار. أما بالليل فكان جدي هاوزر مخترعاً. لقد استطاع المخترع العجوز أن يسجل براءة الاختراع الذي وضع في يد الناس رشاش الحدائق الكهربائي الذي أسعد الملايين بتوفير جهود كانوا يبذلونها، وساعات كانوا يمضونها في محاولة ري حدائقهم المنزلية.

وهو ما أفضى موضوعياً إلى جعل عطلات نهاية الأسبوع أوفر وقتاً وأوسع فراغاً وربما أكثر متعة في كل حال. لكن هذا المخترع الآتي من سويسرا لم يتحول إلى صاحب ملايين، لماذا؟ لأنه كان كما يقول حفيده مؤلف الكتاب، مجرد فرد موهوب يمكنه الاختراع دون أن يكون مزوداً بموهبة تنظيم المشاريع، ومن ثم فلم تجد مخترعاته طريقها المرسوم إلى أسواق البيع والشراء، والثراء بطبيعة الحال.

من هنا يؤكد المؤلف على أهمية ترجمة الإبداع أو الاختراع إلى خطة، إلى برامج وإلى مشروع ومن ثم إلى سلعة ملموسة ومُنتَج حقيقي مفهوم ومطروح في الأسواق: إنها ترجمة تتم من العالم الافتراضي، وهو عالم الحاسوب والإنترنت والتويتر والوصلات والمراسلات الإلكترونية إلى العالم المادي، السِلعي، الاقتصادي والاستهلاكي بكل تأكيد.

المشيدون مطلوبون

من هنا يدعو المؤلف إلى تفعيل ما يطلق عليه الوصف التالي: حركة الفاعلين أو البنائين، بمعنى حركة الأفراد الموهوبين بتحويل الأفكار الابتكارية إلى أدوات عملية ملموسة، وترجمة الإبداعات المحلقة إلى سلع متداولة بين أيادي الملايين.

على أن هذه الحركة باتت تتم وتتفاعل وتحقق إنجازاتها على مسرح مستجد وغير تقليدي بحال من الأحوال: زمان يوضح المؤلف، كان أصحاب المخترعات والابتكارات يقضون الأيام والليالي وهم أقرب إلى رهبان المعامل والمختبرات الكائنة في أقبية البيوت وزوايا المصانع شبه المعتمة. أيامها كانت الصورة النمطية المنطبعة عن المخترع هي صورة إنسان يرتدي معطفاً أبيض، أو كان كذلك في سابق الأيام، ويستخدم عوينات سميكة، ويرسل لحية كثة جلّل البياض سوادها، ويمضي ذاهلاً أو شبه ذاهل عن مجريات الأمور العادية في حياة الناس.

إن كتابنا يودّع بحسم وبلاغة كل أبعاد هذه الصورة المتقادمة وكل رتوشها وزواياها، المؤلف يصّور المخترع في أيامنا الراهنة على أنه يمكن أن يكون فتى واعداً في مطلع الشباب، يصاحب جهاز الحاسوب الشخصي، ويتعامل مع المعلومات الرقمية (ديجيتال)، ويتابع أحدث ما يستَجد على شبكة الويب المعلوماتية، ويدخل في حوار علمي وتقني يسمونه عصف الأفكار مع رفاق طريقه المنبثين في طول الكرة الأرضية وعرضها، طبعاً مع مراعاة فروق التوقيت.

حيث نمت بين صفوفهم وعبر اهتماماتهم لغة مشتركة، يمكن أن يكون أصل مفرداتها إنجليزياً، ولكنها طورت نفسها واصطنعت مفرداتها وطورت أجروميتها الخاصة بها لدرجة أن يطلق مؤلف هذا الكتاب على هذه الجماعات صفة: النادي الكوكبي (العولمي) الرقمي. في هذا السياق يعمد المؤلف إلى الربط بين هذه الظاهرة المرتبطة بدور محوري تؤديه في حياتنا الحواسيب وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعوالم التواصل الرقمية وبين دنيا السياسة والشأن العام.

جاء دور الشباب

إن المخترعات أو التحولات التي كانت في زمن مضى مقصورة على صفوة العباقرة، أصبحت الآن، وكما ألمحنا، في متناول جماهير الشباب الذين يأوي كل منهم، في هذا الركن أو ذاك من أركان العالم، إلى حاسوبه الشخصي، فإذا به يتوصل إلى فكرة أو نظرية يمكن أن تؤدي إلى تحولات جذرية في حياة الناس.

تلك إذاً هي ديمقراطية أساليب وأدوات الإنتاج كما تُصورها فصول هذا الكتاب، وخاصة ما يتعلق بالتكاليف الزهيدة نسبياً التي يقتضيها تحقيق التحولات الجذرية، المذهلة أحياناً في حياة الناس.

المؤلف يلخص هذه المنجزات والتحولات في لفظة واحدة هي: التمكــين، وهو بالدرجة الأولى تمكين الفرد العادي، وبصرف النظر عن إمكاناته المادية، أو عن انتمائه الوطني أو عن نوعه (ذكراً كان أو أنثى) أو أرومته العِرقية. كل هذه الشروط أو الحواجز لم يعد لها مكان أو معنى، وخاصة بين مجتمع الإنترنت أو أهل جماهير شبكة الويب.

من ناحية أخرى لا يفوت المؤلف أن يشير إلى أن هذا التوسع في شخصنة المخترعات، وفي تمكين الأشخاص العاديين من تحقيق التحولات في عالم الإنتاج، له جانبه السلبي متمثلاً كما يوضح الكتاب، في المزيد من تمكين الآخرين، بمعنى أبناء شعوب أخرى الذين يصبح بمقدورهم استثمار واستغلال فتوحات تكنولوجيا المعلومات، وهو ما أدى إلى إخراج مصانع وشركات ودوائر واحتكارات أميركية وغرب، أوروبية من حلبة المنافسة ولصالح شعوب أخرى في القارات النامية الثلاث. بيد أن هذه ظاهرة يمكن تفسيرها، في رأي محللي الكتاب، على أنها نوع من اعتدال الموازين.

فكم مضت عقود من السنوات ظلت فيها القوى والشعوب الغربية، أوروبا وأميركا بالذات، تنعم باحتكار التقدم إذ كانت تشكّل عقل العالم ومحاور الإبداع والاختراع على صعيده، ثم تجني ثمار هذا كله على شكل مليارات الثروة ومقاليد القوة والمنعة ومناطق النفوذ.

كانت تلك هي نواتج الثورة الصناعية الأولى، التي كرست دور الآلة الصانعة والآلة المتحركة في عوالم النقل ودنيا المواصلات، وربما دفعت هذه الحالة من تفّوق الغرب إلى أن أقدم هذا الغرب على ارتكاب خطيئة الاستعمار، بحثاً عن الخامات الأولية من جهة والتماساً لأسواق تصريف المنتجات من جهة أخرى.

العصر الرقمي

لكن ها نحن على مشارف العصر الرقمي. ها هو العالم يطرق أبواب الثورة الصناعية الثانية. ولن يُقيّض للغرب أن يحتكر دون غيره مفاتيح هذه الأبواب. وربما تؤدي هذه الثورة الثانية إلى إشاعة امتلاك هذه المفاتيح وتوزيع مهارات استخدامها على أوسع قاعدة ممكنة من أمم العالم وشعوبه.

ألا ترى مثلاً إلى أن الهند أصبحت تضم مركز امتياز مرموق في عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مع ما يرتبط به من ثمار البرمجيات (سوفت وير) ولدرجة أصبح معها هذا المركز الهندي، بنغالور الواقع عند مشارف بومباي ينافس بكل جدارة وادي السيليكون الذي مازالت تتباهى به أميركا في ولاية كاليفورنيا.

موهبـــة المخترع وعقلية المنظّـم

مع ذلك فلا يزال الغرب يعتز بهذه النخبة من أبنائه ممن يجمعون كما يوضح مؤلف كتابنا، بين موهبة المخترع وبين مقدرة المنظِّم، وهو ما يفضي إلى أن يصبح الفرد الموهوب في عداد من يطلق عليهم وصف الصانع الأمهر الوصف نفسه الذي صاغه يوماً الشاعر الناقد الإنجليزي الأميركي توماس ستيرنز إليوت في يوم من الأيام.

يحكي المؤلف (ص 220 وما بعدها) عن الكيميائي الأميركي كاري موليس: كان يقود سيارته في يوم صحو من أيام أبريل عام 1983، درجت السيارة على سواحل كاليفورنيا المطلة على المحيط الهادئ، فيما ظل كاري مسترسلاً في تأملاته حول موضوع كان يشغله على مدار سنوات وهو توفير كمية من المورثات (DNA) تكفي لدراستها واستخراج النتائج تلبية لاحتياجات شتى ما بين إثبات النسب أو إثبات المسؤولية الجنائية .

وما إلى ذلك بسبيل. اتخذت السيارة سرعتها فيما ظل عقل الرجل مسترسلاً في تحليلاته وتأملاته إلى أن برقت في ذهنه فكرة استخدام الوسط الحراري عاملاً مساعداً على حدوث سلسلة من التفاعلات التي تجعل عناصر هذه المورثات تتناسخ لتصل من حيث الحجم إلى عدة ملايين.

وبغير تفاصيل يقودنا المؤلف إلى أن هذه الفكرة هي التي أفضت من خلال سلاسل من التجارب التي استغرقت 10 سنوات إلى تطوير البحوث والنواتج في مجال الوراثيات، وعلى أساس ما توصّل إليه الكيميائي المذكور، وهو ما أدى إلى حصول كاري موليس على جائزة “نوبل” الدولية الرفيعة في الكيمياء في عام 1994.

مع هذا كله، فما كان لهذا الكشف أو الإنجاز العلمي ليوضع في خدمة البشرية لولا أن تناولته أيادي المنظِّمين، أو الفاعلين أو الصانعين وهم أبطال هذا الكتاب، هم الذين ترجموا نظرية كاري إلى ماكينات يتم استخدامها في التحليل المختبري واسمها الدوارات الحرارية، التي ما لبثت بدورها أن أصبحت جزءا لا يتجزأ من تجهيزات أي مختبر في الدنيا يتعامل مع الوراثيات. ولقد بدأت تكاليف الماكينة الواحدة بمبلغ باهظ يصل إلى 100 ألف دولار، لكن امتدت إليها أيادي شباب العصر الرقمي لتصل بها إلى مبلغ 5 آلاف دولار.

ومع ذلك فلم يكن هذا كافياً، فالعالم يطمح إلى استخدامها وتشغيلها بالبطاريات في قارة إفريقيا، والعالم يرنو إلى أن يتعامل معها تلاميذ المدارس، من هنا، دارت من جديد الإبداعات الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات وشمّرت جموع شباب الإنترنت والحواسيب عن سواعد الجد، إلى أن توصل باحث شاب من كاليفورنيا أيضاً واسمه جوش برفيتو إلى تصنيع جهاز جاء أقرب إلى الصندوق البسيط لكنه يؤدي بكفاءة عمل الجهاز الأصلي في تحضير مادة دي إن إيه إياها، ولكن بسعر أصبح في متناول الجميع وهو 599 دولاراً فقط لا غير.

 محمد الخولي – البيان

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *