النظرة الإيجابية قادرة على تجديد الدماغ

الرئيسية » حياة وتكنولوجيا » النظرة الإيجابية قادرة على تجديد الدماغ

النظرة الإيجابية قادرة على تجديد الدماغ

لعل الأبرز في مستجدّات النظرة العلميّة إلى الشيخوخة، هو التشديد على قدرة التفكير الإيجابي المتفائل على تجديد الدماغ نفسه. ومن المستطاع صوغ ذلك المفهوم بالقول أن العقل والنفس (سواء نُظِر إليهما كشيئين منفصلين أو كوحدة متضافرة)، يغيّران في تركيب الدماغ الذي يفترض أنهما «يصدران» عنه، أو ينطقان بواسطته، أو «يتماهيان» مع أنسجته وتراكيبه. مهما تفاوتت النظرة إلى الدماغ والعقل والنفس، بات واضحاً لدى علماء الدماغ أن التفكير الإيجابي والنظرة المتفائلة والأحاسيس الإيجابيّة والتواصل المنفتح مع شبكة من الأصدقاء والأقارب والمعارف، تملك القدرة على تجديد الدماغ.

في ماضٍ ليس بعيد في نظر العلم، اعتبر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أن العقل (مع المشاعر والأحاسيس) يشبه «الشبح في الآلة»، في إشارة إلى «آلة» الدماغ. لم يعد الأمر بتلك البساطة. وكذلك ركّزت أعمال مدرسة التحليل النفسي على البعد النفسي للكائن البشري، بأبعاده الواعية وغير الواعية، مع عدم إغفالها دور الدماغ أيضاً. وتجاوز الطب تلك النظرة أيضاً، ليصل إلى قول مغاير، بمعنى أنه بات ينظر إلى العلاقة بين العقل والأفكار والمشاعر والأحاسيس (من المستطاع الإشارة إليها بمصطلح «العقل» على سبيل الاختصار) من جهة، والدماغ وتراكيبه ومناطقه وأنسجته وأعصابه من جهة ثانية، باعتباره علاقة تفاعلية تسير في الاتجاهين. ولخّصت البروفسورة إلين لانغر، وهي اختصاصيّة في علم النفس من «جامعة هارفرد»، تلك العلاقة المتشابكة بعبارة وجيزة: «وفق ما يكون العقل، يكون الدماغ أيضاً»! وتستند تلك العبارة إلى دراسات موسّعة عن العلاقة بين الأحوال النفسيّة والسلوكيّة من جهة، والقدرة على الاحتفاظ بدماغ نشط ومتحفزّ كأنه لا يغادر عمر الشباب. وتشدّد لانغر على أن تلك الدراسات التي امتدت منذ سبعينات القرن الماضي، تستند على التطوّر في مفهوم اللدونة العصبيّة للدماغ . إذ تبيّن أن التقدّم في السن لا يفقد الدماغ لدونته، بمعنى التقدّم في السنّ لا يفقد الدم قدرته على صنع توصيلات جديدة، بل حتى إنشاء مراكز بديلة لما يتعرض لعطب أو عطل. ولعقود طويلة، اعتقد العلماء أن الدماغ يفقد تلك الدونة مع كرّ السنين، ما يجعل سيره نحو الخرف وتواهن القدرات المعرفية والسلوكيّة، من الأمور شبه المحتّمة.

واستطراداً، الأرجح أن البروفسور نورمان دويدج، وهو اختصاصي أميركي في علوم الأعصاب، جمع كمية وافرة من الدراسات عن قدرة العقل في التأثير على تركيبة الدماغ، بل تجديده وإمدادها ببدائل عما تفقده، استناداً إلى اللدونة العصبية في أنسجة الدماغ. ووضع دويدج عرضاً عن تلك الدراسات في كتاب ذائع الصيت هو «الدماغ الذي يغيّر نفسه» The Brain That Changes Itself، الذي ترجمه إلى العربيّة الزميل رفيف غدّار، وصدر عن «دار العلوم- ناشرون».

في المنحى عينه، تركز البروفسورة إليسا إيبل على التفاؤل والتعامل المرن والإيجابي مع الحياة، والقدرة على التواصل مع البشر، باعتبارها سلوكاً في العقل (بمعناه الواسع الذي يشمل التفكير والعواطف والأحاسيس وغيرها)، يؤثّر إيجابيّاً على الدماغ.

وهناك منحى آخر فائق الأهمية، تتفق عليه آراء لانغر ودويدج وإيبل ومجموعة كبيرة من علماء الأعصاب والطب النفسي، يتمثّل في الأثر الإيجابي لممارسة التأمّل المتنبّه أو المتيقّظ، على أداء العقل والدماغ سوية. ولم يتردّد البعض في وصف الأمر بأنه مفهوم «ثوري»، خصوصاً أنه تبلوّر في تقارير ظهرت السنة الماضية وبداية السنة الحالية، عن دراسات استمرت منذ سبعينات القرن الماضي، إضافة إلى دراسات حديثة شملت الجامعات والثانويات وحتى المدارس الإبتدائيّة.

إذاً، تسير «ثورة التيقّظ» بقوة في أميركا، بل يبدو أنها تستجيب إلى تطلّع واسع إلى حدّ أن أحد الكتب الحديثة التي تشرح تلك الثورة يحمل عنواناً يوحي بآفاق واسعة: «نحو أمة متيقّظة» Towards A mindful Nation. يزيد في إثارة العنوان أن مؤلّف الكتاب هو تيم رايان، عضو ناشط في الكونغرس.

في العام 1979 عقب تخرّجه عالِماً في «معهد ماساشوستس للتقنيّة»، ابتدأ البروفسور الأميركي جون كابات زِنن تطوير تقنية «خفض التوتر بالاستناد إلى التيقّظ» Mindfulness Based Stress Reduction، واختصاراً «إم بي إس آر» MBSR. جاء زِينن إلى ذلك المعهد الذائع الصيت، بنصيحة من والده الذي كان أستاذاً أكاديمياً متخصّصاً في بحوث جهاز المناعة. ودرس الإبن زِينن علوم الجينات والخلايا، ثم انجذب إلى فلسفة الـ»زِن» Zen الشرقية المعروفة.

وبعد أن انغمس في دراسة الفلسفة أكاديميّاً، لاحظ زِينن أن تلك الفلسفة المشهورة تفتقد إلى الأساس العلمي. وفي المقابل، أدرك أن ممارساتها في التأمّل لا تعدم صلة بالبحوث العلمية عن الدماغ.

وبذا، ولِدَت لدى زِينن فكرة للجمع بين تيارين كبيرين ومنفصلين، بل متعارضين ومتعاكسين. لماذا لا يمكن الاستفادة من تقنية التأمّل، بمعنى تطويرها وتطويعها، من جهة، وإيجاد جسر ما يربطها مع الطب الحديث؟

ومنذ البداية، أسقط زِينن كليّاً كامل التراث الروحي المرتبط بالتأمّل، باعتبار أنه لا يوجد علميّاً ما يسند ذلك التراث وادّعاءاته الفضفاضة.

وفي المقابل، إنكبّ زِينن بدأب على ربط ممارسة التأمّل مع التطوّر المستمر في فهم العلاقة بين الجهاز العصبي للإنسان من جهة (خصوصاً الدماغ)، والعمليات الذهنية الأساسيّة كالتركيز والاستيعاب والتقاط التفاصيل وغيرها.

وبعد مراجعات واسعة، بات من المستطاع القول إن الممارسة المنتظمة لـ»التأمّل المتيقّظ»، تساعد بوضوح في الاحتفاظ بقدرات العقل وحماية تراكيب أساسيّة في الدماغ.

الحياة اللندنية

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *