المدن الذكية ضرورة أملتها الثورة الصناعية الرابعة

الرئيسية » إعلام ورقميات » المدن الذكية ضرورة أملتها الثورة الصناعية الرابعة

في كتابه “المدن الذكية: الخصائص والنماذج والفرص والتحديات”، يناقش الدكتور إيهاب خليفة رئيس وحدة التطورات التكنولوجية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بأبوظبي ظاهرة المدن الذكية ويدرس المقصود بالمدينة الذكية من حيث أهم خصائصها وسماتها والتكنولوجيات القائمة عليها ونمط حياة السكان فيها، بالإضافة إلى النماذج المختلفة التي يمكن تبنّيها عند قيام الحكومات بالتخطيط لهذا النمط من المدن، كما يناقش باستفاضة التهديدات والتحديات التي تواجه نموذج المدن الذكية، ويأخذ دولة سنغافورة كحالة دراسة تطبيقية.

جودة الحياة

تأتي أهمية الكتاب الصادر عن دار المكتب العربي للمعارف، من كونه طُرح في وقت يتزايد فيه التوجه نحو إقامة مدن ذكية، وأن ما يقدر بنسبة 70 في المئة من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول 2050. وبحلول عام 2025 سيكون عدد المدن التي يعيش بها أكثر من 10 ملايين نسمة في العالم 34 مدينة، حيث أعلن العديد من الدول الاتجاه نحو إنشاء مدن ذكية. فمقارنة بـ21 مدينة ذكيّة عام 2013، من المتوقع أن يصل عدد المدن الذكية حول العالم عام 2025 إلى 88 مدينة ذكية، منها 32 مدينة في منطقة آسيا والباسيفيك، و31 مدينة في أوروبا، و25 مدينة في القارة الأميركية، وذلك حسب تعريف شركة (IHS) لمفهوم المدينة الذكية.

وتتعدّد الأسباب التي تدفع الدول إلى تبنّي نماذج المدن الذكية، وفقا لخليفة، والتي منها زيادة عدد السكان بمُعَدَّلات غير مسبوقة، وتضخُّم المدن الحالية، واستفحال مشاكلها التقليدية، والرغبة في الاستفادة من مكتسبات الثورة الصناعية الرابعة والتقنيات الذكية في التغلب على هذه المشكلات. وتضاف إلى كل ذلك أسباب أخرى متعلقة بالرغبة في زيادة مُعَدَّلات التنمية الاقتصادية وتحسين جودة الحياة البشرية ومواجهة المخاطر والتهديدات الأمنية. وفضلا عن ذلك، هناك بعض مظاهر الحياة الذكية التي باتت منتشرة داخل كافة المجتمعات، المتطورة وغير المتطورة، بصورة تجعل عملية التحول المتكامل نحو مفهوم المدينة الذكية أمرا ليس معقدا. وباتت شبكات الإنترنت سواء السلكية أو اللاسلكية وبسرعات عالية الجودة في مناطق كثيرة حول العالم، مع انخفاض تكلفة شراء الهواتف الذكية، ووجود عدد من المشروعات التي تسعى إلى تقديم الإنترنت من الفضاء الخارجي مثل مشروع شركة ستارلينك الذي يسعى إلى تقديم الإنترنت لجميع المستخدمين حول العالم عبر أقمار اصطناعية صغيرة تدور حول الأرض، وبسرعات فائقة.

ويضاف إلى كل ذلك انتشار نظم جمع المعلومات وتحليل المعلومات الذكية سواء من خلال أجهزة الاستشعار التي تستقبل البيانات وفق خوارزميات محددة وتقوم بتحليلها، أو من خلال برامج تحليل المصادر العلنية المعروفة باسم “OSINT”، هذا فضلا عن الانتشار المتزايد لإنترنت الأشياء، وتزايد عدد القطع المتصلة بالانترنت، حيث وصلت عام 2020 إلى أكثر من 20 مليار قطعة، وتبلور مفهوم المنازل الذكية التي تتم إدارتها من خلال الهواتف الذكية.

وأشار خليفة إلى النماذج المتعددة للمدن الذكية مثل مشروع “المدن الذكية الأوروبية” الذي تم إطلاقه عام 2007 في أوروبا لإنشاء 70 مدينة ذكية، وذلك في إطار مشروع أوروبا 2020 الذي يستهدف تحسين الخدمات وزيادة فرص العمل. وفي يوليو 2014 أعلن رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي نيّته بناء 100 “مدينة ذكية” مجهزة بأحدث القدرات التقنية في مختلف أرجاء الهند من إجمالي 4000 مدينة هندية قديمة سيتم تحويلها إلى مدن حديثة يمكنها التنافس مع أي من كبريات المدن حول العالم.

تسابق عربي

يرى خليفة أنه في المنطقة العربية تتبنى الإمارات العربية المتحدة نماذج لمدن ذكية، وتمثل دبي أحد أهم المدن الذكية الأسرع نموا في العالم، حيث قامت بإطلاق مبادرة “دبي مدينة ذكية” في أكتوبر 2013، وهي المبادرة التي تتضمن 500 خدمة ذكية، وتم في إطارها تدشين مشروع “سيليكون بارك” على امتداد 150 ألف متر مربع وبتكلفة تُقدر بـ300 مليون دولار، كما دشّنت دولة الإمارات أيضا مدينة “مصدر” في أبوظبي، التي تم تصميمها لتكون مدينة ذكية وصديقة للبيئة والتنمية المستدامة. كما شهدت دول شمال أفريقيا مبادرات على الصعيد ذاته، حيث أعلنت المملكة المغربية تحويل ست مدن رئيسية (تشمل الدار البيضاء، والرباط، وطنجة، وفاس، وإفران، ومراكش) إلى مدن ذكية بحلول عام 2026، مع إنشاء عدة مدن ذكية مستدامة تعتمد على طاقة الشمس والرياح، كما أعلنت مصر هذا العام عن إطلاق الجيل الرابع من المدن المصرية الذي يقوم على فكر المدن الذكية، وتعتزم تطبيقه في العاصمة الإدارية الجديدة ومدينتي العلمين الجديدة وشرق بورسعيد.

وأكد خليفة أن المدن لا تتحول إلى ذكية بضغطة زر كمبيوتر، ولكن تبدأ بمراحل، تشمل وجود بنية تحتية قائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ومن ثم نشر أجهزة استشعارات وجمع معلومات في جميع أرجاء المدينة، ثم إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، وإنشاء منصَّات وشبكات تربط هذه التقنيات وأجهزة جمع المعلومات مع بعضها البعض، ويتحكم في ذلك مركز إدارة مركزي يتولَّى عملية جمع ومشاركة وتحليل المعلومات، بما يؤدي إلى تحسين عملية اتخاذ القرار داخل المدينة. وذلك حتى نصل في النهاية إلى مدينة تتَّسم بارتفاع معدل الأمان داخلها، وقادرة على إعادة تدوير نفسها، فتحصل على الطاقة من أكوام القمامة، وتُعيد استخدام المياه في الري والزراعة، وتتميز بالاستدامة من حيث الحفاظ على الموارد بداخلها لأجيال قادمة، لا يضطر فيها الأفراد إلى التحرك لكل الأشياء، فقد يمكنهم إنجاز أعمالهم من المنزل، والحصول على خدماتهم الحكومية عبر الهاتف الذكي، وعند الحاجة إلى التحرك، فالمواصلات محافظة على البيئة، مثل السيارات الكهربائية، وتنتشر فيها تقنيات النقل ذاتي القيادة.

وأضاف “لكن الأمر ليس مثاليا أو بهذه السهولة، حيث تُواجه تحديات كبرى، سواء في عملية الإنشاء أو التشغيل، وتستهلك الكثير من الجهد والوقت والأموال، فهي أحد المشروعات العملاقة متعددة الأبعاد؛ سياسية، واقتصادية، وأمنية، واجتماعية، قبل أن تكون تكنولوجية، ولها تداعيات وتهديدات أيضا ناجمة عن النظام التكنواجتماعي الجديد الذي تم إنشاؤه بداخلها، ولكن هذه التهديدات والتحديات لا تمثل عائقا حقيقيا نحو إنشاء المدينة، كما أن المكاسب والمميزات التي سيتم الحصول عليها جرّاء تبنّي هذا النموذج تفوق التهديدات الناجمة عنه”.

ورأى خليفة أنه بالرغم من كون مفهوم “المدينة الذكية” هو أحد المفاهيم واسعة الانتشار إلا أن ذلك لا يعني وجود تعريف واضح ومحدد للمدينة المقصودة، كما أن التصنيفات التي تحدد هذه النوعية من المدن متنوعة، بعضها يضيِّق مؤشراته ويقصرها على عناصر صارمة حتى تأخذ في الاعتبار المدن التي بدأت بالتحول بالفعل، وبعضها الآخر واسع، ويشمل حتى الدول التي تخطط في المستقبل القريب للتحول إلى مدينة ذكيَّة.

ويؤكد أن هناك خلطا بين بعض المفاهيم التكنولوجية لوصف المدينة الذكية، مثلا الذكاء بوصفه عملية فكرية “smart Intelligent” أو الذكاء بوصفه عملية صناعية – رقمية “digital” أو افتراضية “virtual”. وقد يتبادر إلى الذهن تساؤل في غاية الأهمية، لماذا سمّيت المدينة الذكية “Smart City” وليس “Intelligent City” أو غيرها من المفاهيم التكنولوجية، وهو تساؤل منطقي في الحقيقة ينبغي الإجابة عنه أولا قبل التطرق إلى تعريفات المدينة الذّكية.

فضاء سيبراني

أوضح خليفة أن “الذكاء بتعريفه “Smartness” هو التعريف الأكثر شمولا، سواء أكان للبعد الفني المتمثل في الأجهزة والنظم، والاستشعارات والذكاء الاصطناعي أو في بعده الاجتماعي المتمثل في العلاقات الإنسانية، والتخطيط العمراني وعلاقته بالمكون التكنولوجي، في حين أن الذكاء بتعريفه “Intelligent” يقتصر على الجانب الفني الذي يهدف إلى تطوير النظم، وتعليم الآلات، لكي تكون قادرة على اتخاذ قراراتها بصورة ذاتية ومستقلة، ولذلك نُطلق على الذكاء الاصطناعي مُصطلح “Artificiel Intelligence”. بينما يشير مصطلح المدينة الرقمية إلى خدمات الاتصالات ذات النطاق العريض المدمجة مع البنية التحتية، والتي تُسهِّل عملية التواصل بين المواطنين والحكومة والأعمال، ولذلك كل ما يشار إليه بـ Intelligent هو بالضرورة “Digital”، وليس العكس صحيحا. أما المدينة الافتراضية أو “Virtual City” فهو مصطلح يقوم على تقسيم المدينة إلى قسمين، قسم مادي يتمثل في النظم والأجهزة والبنى التحتية، وقسم افتراضي يتمثل في الفضاء السيبراني باعتباره الوسيط الذي يضم جميع هذه العناصر مع بعضها البعض، في حين يأخذ مُصطلح “Smart” جميع هذه المفاهيم والعناصر السابقة، من نُظُم وبنى تحتية وإنترنت، بالإضافة إلى البعد الأهم، وهم الأفراد أنفسهم، جوهر المدينة الذكية، فضلا عن البعد الحضري والاجتماعي أيضا.

وحلّل خليفة العناصر الرئيسية التي تتكون منها المدنية الذكية وهي ستة عناصر ممثلة في الاقتصاد الذكي، التنقل الذكي، البيئة الذكية، الشعب الذكي، الحياة الذكية، والحكومة الذكية. كما حلّل الشروط الأساسية الضرورية الواجب توافرها لعملية إنشاء وبناء المدينة والتي تتمثل في الحكم الرشيد، الموارد الاقتصادية، المسؤولية الاجتماعية للشركات، والعنصر البشري الذَّكي.

وقدّم تصنيفا للنماذج المختلفة من المدن الذكية قائما على عدة معايير مزدوجة تختلف حسب أربعة عناصر، تتمثَّل في ما يلي:

  • أولا: نوع التكنولوجيا المستخدمة فيها، والتي قد تكون تكنولوجيا مغلقة المصدر لا تستطيع تطويرها إلا الشركة التي قامت بابتكارها، أو مفتوحة المصدر يمكن لأي مطور أو مُبرمج العمل عليها وتطويرها.
  • ثانيا: الفاعلون المساهمون في عملية بناء المدينة، سواء أكان القطاع الخاص منفردا أو بالتعاون مع المجتمع المدني في إطار استراتيجية حكومية.
  • ثالثا: القطاع الذي تخدمه المدينة، سواء أكان قطاعا فرعيا أو جميع القطاعات بالدولة.
  • رابعا: درجة حداثة المدينة نفسها، فهناك مدن يتم بناؤها منذ البداية لتكون ذكية، وهناك مدن قديمة يتم تحويلها إلى مدن ذكية.

وأكد أنه على الرغم من المميزات العديدة التي تقدمها المدن الذكية من سهولة في الحصول على الخدمات، وكفاءة في إدارة الموارد، وتوفير في النَّفقات، وتحسين جودة حياة الأفراد، إلا أن لها العديد من التحديات التي تبدّد عملية التنفيذ والإنشاء، ليس أقلها التخطيط الاستراتيجي الجيد، ووجود رغبة حقيقية من صُنّاع القرار في إنشاء المدينة تُحرِّكها رؤية مُستقبلية للوظائف التي ستقوم بها هذه المدينة. كما أن الحياة داخل المدينة لا تتسم بالمثالية والكمال بل تطرح أيضا تهديدات ومخاطر، وأشكالا جديدة من العنف والجرائم، وثغرات قد تتسبَّب في تهديد حياة الأفراد والأمن القومي أيضا، وهو ما يتطلَّب التعامل الحذر مع التقنيات الجديدة بالمدينة، وضرورة التحرّك الاستباقي لمكافحة أي أعمال عنف أو إرهاب، والتحديث المستمر للأجهزة والبرمجيات بصورة تمنع القراصنة من تهديد الحياة داخل المدينة، والتعاون الدولي في مجال مكافحة الجرائم والحروب السيبرانية.

وخلص خليفة إلى التوقف عند حالة سنغافورة كنموذج للمدينة الذكية التي تسعى للتحوّل إلى أول دولة ذكية في العالم، حيث ناقش سمات المدينة الذكية في سنغافورة وخصائصها ونماذجها، بما يساهم في رسم رؤية واضحة عن الدولة، فضلا عن تحديد مصادر تهديد الأمن القومي في سنغافورة بالتركيز على التهديدات الخاصة بالمدينة الذكية، سواء كانت تقليدية أو غير تقليدية، وأخيرا الطرح الذي قدمه النموذج السنغافوري لمواجهة هذه التهديدات.

محمد الحمامصي- صحيفة العرب

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *