المجتمع المدني من المعيارية إلى الموضوعية التاريخية

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » المجتمع المدني من المعيارية إلى الموضوعية التاريخية

يسجل على أومليل في دراسته المبكرة: “ملاحظات حول مفهوم المجتمع في الفكر العربي الحديث” أن الغائب في الأدب السياسي الإسلامي هو المجتمع والسياسة كما كانا في الواقع الفعلي. وهو غياب يرده إلى أمرين:

أولا؛ بسبب التدافع على تأكيد السلطة العلمية..

ثانيا؛ بسبب الاتجاه المنهجي للمعرفة العلمية القديمة التي لم تكن ترى في المجتمع والسياسة الواقعيين موضوعا حقيقيا للعلم، مجردا عن المعيارية الدينية، أو الفلسفية – الأخلاقية.

وهو ما جرى الوعي به بشكل عبقري من خلال التمييز المنهجي الذي وضعه العلامة عبد الرحمن بن خلدون وهو يتناول مسائل المجتمع والسياسة في استقلال عن هذه المعيارية، يقول: ” إن كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته إنما هو بمقتضى طبيعة العمران، ووجود البشر، لا بما يخصها من أحكام الشرع فليس هذا من غرض كتابنا كما علمت، فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشرعية”.

نلاحظ إذن كيف أن ابن خلدون يتحدث عن المجتمع وكأنه مستقل عما يجب أن يكون عليه شرعا، وكذا عن معيارية الفلاسفة الأخلاقيين، ولكنها استقلالية تندرج، مع ذلك، ضمن المنطق العام للعمران الحضاري الإسلامي القائم على عمليتي “التعمير والاستخلاف”، الذي بمقتضاه لا يتصور مجتمع إنساني حقيقي بعيدا عن المقاصد التي حددها له الشرع.

إذا أمكننا مع ابن خلدون الحديث عن “مجتمع عربي إسلامي” فهل يمكننا بالقدر نفسه أن نتحدث عن “مجتمع مدني عربي إسلامي”؟

الواقع أن “المجتمع المدني” بمفهومه الحديث لم يوجد منذ القدم، أو في أي مكان، ولكنه ظهر نتيجة شروط تاريخية معروفة ومحددة؛ فقد ارتبط بظهور المجتمع الصناعي، واقتصاد الإنتاج، وبفضل التطور العلمي والتكنولوجي، الذي عمم العقلانية العلمية على مجال القيم، وأسس السياسة ونظام المجتمع، وكان من نتائجها إقرار علاقات وعادات وقيم مدنية، وتمايز مجال السياسة عن مجال الدين.

وفي هذا السياق يخبرنا تالكوت برسونز (Talcott Parsons)  كيف أن المجتمع المدني نتج من تمايز المجتمع ووظائفه في مرحلة الحداثة نتيجة لثورات ثلاث هي: الثورة الصناعية التي أفرزت الاقتصاد بما هو مجال قائم بذاته، والثورة التعليمية التي جعلت التعليم والثقافة قطاعا اجتماعيا قائما بذاته أيضا. والثورة الديمقراطية التي أفرزت السياسة بما هي مجال للمشاركة والرقابة العامين..

كما لا ينبغي أن نغفل العلاقة بين علم الاجتماع وظهور المجتمع المدني الجديد الناتج عن الثورة الصناعية؛ وهي علاقة وظيفية تقوم على العمل على إعادة الاستقرار إلى مجتمع تحطم نظامه بفعل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية  التي أنتجت المجتمع الصناعي الحديث، وما ارتبط به من ثورات وتبدل في القيم والعلاقات الاجتماعية.

فبعد أن سلم علماء الاجتماع في الغرب بأن المجتمع القديم قد انتهى نظامه إلى غير رجعة، وأن المجتمع الجديد لم يستقر بعد، عملوا على استحداث هذا العلم الجديد على أساس من الضبط العلمي له من جهة، وتوفير قيم أخلاقية جديدة (بدلا عن التقليدية) لا يتنكر لها العلم، وترسيخ “الروح المدنية” لأفراده وفئاته. وهذا ما يفسر المنحى (الإصلاحي التربوي) لسوسيولوجيا أوجيست كونت Auguste Comte وإميل دوركايم Emile Durkheim ودورهما في إرساء؛ معرفة علمية موضوعية بالواقع الاجتماعي الجديد من جهة أولى، وإعادة تأسيس النظام التربوي باستحداث قواعد “لأخلاقيات مدنية جديدة” من جهة ثانية.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *