العصر الرقمي في عقده الثاني.. هذا كلّه مجرد بداية

الرئيسية » إعلام ورقميات » العصر الرقمي في عقده الثاني.. هذا كلّه مجرد بداية

في أواخر الثمانينات من القرن العشرين كان أقل من واحد في المئة من المعلومات المحفوظة تكنولوجيا على مستوى العالم موجودا بصيغة رقمية، بينما أصبح هذا الرقم 94 في المئة عام 2007، ونما ليصبح أكثر من 99 في المئة بحلول عام 2014. ويقول الخبراء إن العام 2005 هو العام الذي تمكن فيه الإنسان من تخزين معلومات رقمية تجاوز حجمها حجم المعلومات المخزنة بالصيغة التقليدية التماثلية، وبذلك يمكن الإشارة إلى العام 2005 بأنه العام الذي أرّخَ لبدء “العصر الرقمي”. ما من شك فإن الثورة الرقمية بدأت تتشكل قبل عام 2005، وتمثلت في الانتقال من التقنيات الميكانيكية إلى التكنولوجيا الرقمية، في وقت ما بين أوائل الخمسينات وأواخر السبعينات من القرن العشرين بتبني وتزايد أجهزة الكمبيوتر الرقمي وأجهزة التسجيل الرقمي، هذا التنامي الذي استمر حتى يومنا الحالي.

الثورة في بدايتها

يشير هذا المصطلح ضمنيا أيضا إلى التغيرات الشاملة التي أظهرتها الحوسبة الرقمية وتقنيات الاتصالات خلال وبعد النصف الثاني من القرن العشرين. بشكل مشابه لما حدث أثناء الثورة الزراعية والثورة الصناعية في الماضي. قد نختلف على تحديد البداية بدقة، ولكننا سنتفق على أن ابتكار التكنولوجيا الكامنة وراء الثورة الرقمية جاء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن ضمن هذه الابتكارات المحرك التحليلي، وهو حاسوب ميكانيكي صممه عالم الرياضيات الإنجليزي شارلز بابيج ويعتبر أول كمبيوتر رقمي متعدد الأغراض يتم التحكم فيه بشكل كامل. تتألف الماكينة الخاصة بحاسوب بابيج الموجود حاليا في متحف لندن للعلوم، من أربعة مكونات رئيسة هي المصنع، والمخزن، والقارئ، والطابعة، وسنجد أن هذه المكونات تمثل نفس المكونات الرئيسية لكل حاسوب يتم اليوم، حيث يمثل المصنع وحدة الحساب، ويمثل المخزن وحدة الذاكرة حيث يتم الاحتفاظ بالبيانات قبل معالجتها، في حين القارئ والطابعة هما وحدتا الإدخال والإخراج. وأصبح الاتصال الرقمي متوفرا تجاريا للاستعمال واسع النطاق بعد اختراع الكمبيوتر الشخصي.

ويعود الفضل في وضع أسس التحول الرقمي إلى كلود شانون عالم الرياضيات الأميركي في مختبرات بيل، وذلك في كتابه “نظرية رياضية للاتصالات” عام 1984، الذي حول الثورة الرقمية التكنولوجية التماثلية إلى صيغة رقمية تستخدم حاليا في تشغيل الحواسيب كما أنه ساهم في إنشاء العدد الثنائي (البت). ولكن تبقى فترة الثمانينات من القرن العشرين هي الفترة التي اقترنت بالثورة الرقمية بأذهان الكثيرين منا، خاصة على المستوى الملموس. التسارع المذهل في الثورة التكنولوجيا ترك فجوة بين علماء الاجتماع والقانون وبين المبتكرات العلمية نفسها، ولم يتح الوقت الكافي لتقديم إجابة على سؤال قد يطرحه الكثير منا على نفسه اليوم. ما هي الآثار التي ستتركها هذه الابتكارات التكنولوجية التي يجري الحديث عنها على مستقبل العمل والحياة؟ للإجابة على السؤال، لا بد أولا من العودة إلى الماضي، ليس البعيد، ولكن القريب منه، أربعون عاما تكفي لنرى إلى أي مدى تقدمت البشرية خلال أربعة عقود.

هل تتذكر آخر مرة ألصقت فيها طابعا بريديا على رسالة أو بطاقة بريدية مصورة أرسلتها لأصدقائك أو أفراد أسرتك وأنت في رحلة سياحية خارج بلدك، من تجاوزت أعمارهم الأربعين قد يكونون بين قلة تذوقت طعم المادة الصمغية على الطابع الذي قامت باستخدامه. ولكن من هم أقل عمرا، لا تثير لديهم هذه العادة أي ذكريات. اليوم لدينا وسائل تواصل اجتماعي تبقينا على اتصال دائم بعائلاتنا وأصدقائنا ثانية بثانية وعلى مدار 24 ساعة. فمن يحتاج إلى طابع بريدي؟ مواليد العقود الثلاثة الأخيرة لا يحملون أي ذكريات عن الطوابير الطويلة في البنوك لإجراء معاملة بسيطة، أو الاطلاع على الأحداث المحلية من خلال تقليب صفحات الجرائد الورقية، أو السير إلى مكتبات لانتقاء كتاب. المتاجر الإلكترونية مثل أمازون توصل لك ما تريده إلى باب منزلك، وكل ما عليك عمله هو القيام بنقرة زر واحدة.

هناك خدمات مصرفية عبر الإنترنت تمكنك من إرسال الأموال أو تلقيها كما تشاء. تريد معلومة، يمكنك طلبها من غوغل وسيقدم لك محرك البحث الملايين من النتائج في أجزاء في ثوانٍ معدودة. التلفزيون الذي كان يختار لك البرامج التي تتابعها تغيرت وظيفته، التطبيقات الذكية تتيح لك اختيار ما تريد متابعته من أفلام ومن مسلسلات على مدار الساعة. يمكنك اليوم حضور اجتماعات العمل وأنت مرتاح على أريكة في منزلك. بل يمكنك أيضا أن تبدأ مشروعك الخاص دون حاجة إلى الاستثمار في مساحة مكتبية. قائمة التغيرات طويلة لا تنتهي، والأهم أنها سريعة الحدوث لا تتيح لنا الوقت لالتقاط أنفاسنا.

مهام بسيطة ومعقدة

اليوم بات بإمكاننا تشغيل الأجهزة في منازلنا باستخدام الاتصالات السريعة، بدءا من الهاتف الذكي إلى المكنسة الذكية. هناك تقنية أخرى يدعمها الاتصال بالإنترنت، هي الذكاء الاصطناعي. الكلمة التي بدأنا في ترديدها مؤخرا، وبشكل خاص بعد انتشار وباء كورونا. فما هي هذه التقنية الجديدة التي يتخيّلها البعض كائنا حيا، وكيف يمكن أن تجعل حياتي وحياتك أسهل من أي وقت مضى؟ يمكن تقديم تعريف بسيط للذكاء الاصطناعي بأنه تقليد للذكاء البشري ولسلوكيات البشر، أو هو محاكاة اصطناعية للعقل البشري وأنماط تفكيره. وهذا التعريف يتيح لنا القول إن أي آلة مبرمجة للتفكير والتصرف كإنسان هي ذكاء اصطناعي. ولكن ما أهمية الذكاء الاصطناعي وما هو تأثيره على حياتنا؟

لقد ولت، أو هي في طريقها للاختفاء تماما، الأعمال الرتيبة والمجهدة التي كان علينا القيام بها. لم يعد علينا القلق بشأن المهام التي تستهلك وقتنا ومواردنا وطاقتنا. يمكن للذكاء الاصطناعي اليوم أن يقول بتلك المهمات نيابة عنا. هناك برامج ذكاء اصطناعي حديثة جرى ويجري تطويرها يمكنها إكمال المهام البسيطة والمعقدة من أجلك؛ بدءا من المنزل، إلى الحقل، مرورا بالمصنع والمتجر ومسرح غرف العمليات في المستشفيات ومخابر التحليل والتصوير الإشعاعي.. بل هناك اليوم مقاتلون آليون مستعدون لخوض حروب المستقبل نيابة عنك. لنبدأ من داخل منزلك، ومن حجرة نومك. المنزل الذكي اليوم يحتوي على مصابيح ذكية، وأجهزة تنظيم للحرارة، وأقفال آلية، وأجهزة إنذار ذكية، وأجهزة مطبخ ذكية.. وغير ذلك.

يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي للتحكم في جميع هذه الأجهزة وإدارتها نيابة عنك. يمكن للمنزل الذكي الاتصال بشبكة الأجهزة المنزلية الذكية ومراقبتها للحصول على أداء محسّن. يمكن أن تخفض الأنوار تلقائيا مع استشعار غياب البشر المقيمين لتوفير الطاقة وتقليل فاتورة الكهرباء، وبنقرة زر سيعمل الفرن المنزلي لتجد طعامك ساخنا عند وصولك إلى المنزل.. إضافة إلى أشياء أخرى كثيرة. ما ينطبق على المنزل ينطبق أيضا على أجواء العمل، يمكن أن يؤدي دمج الذكاء الاصطناعي في العمل إلى تبسيط العمليات الإدارية. يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بأصغر المهام، مثل إدخال البيانات، وصيانتها والتدقيق في المخزون، ومراقبة سلسلة التوريد، وأمن المعلومات في غضون ثوانٍ فقط وبدقة أكبر، دون ترك أي فرص للخطأ. بمجرد أن يتولى الذكاء الاصطناعي هذه المهام، يمكنه فتح المزيد من طرق الاستكشاف للعمال، مما يوفر وقتهم وأموالهم في غضون ذلك.

الثورة الحقيقية

لا يقتصر دور التكنولوجيا الذكية على الجهد الإداري والجسدي، لنأخذ على ذلك مثلا حيا تعيشه المجتمعات بعد جائحة كورونا، ويتمثل بالعزلة المفروضة على الناس، وما ترتب عليها من آثار نفسية سيئة تتضح من خلال العدد الهائل للأشخاص المصابين بالاكتئاب، والذي يتزايد يوما بعد يوم. يمكن للتكنولوجيا أن تخفف على الناس مشاعر الوحدة من خلال روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي. هناك تطبيقات للهواتف الذكية وبرامج أخرى للصحة العقلية تستخدم روبوتات الدردشة الذكية للحفاظ على رفقة الأشخاص المنعزلين خلال الأوقات الصعبة. وتدرس روبوتات المحادثة سلوك المستخدم وتضبط نغمة المحادثة وفقا لذلك.

ميزة التعليم الآلي المطبقة حديثا في مجال الذكاء الاصطناعي تتيح تقديم خدمات أكثر تخصصا لإرضاء مختلف المستخدمين والأذواق. العلامات التجارية التي تستخدم روبوتات الذكاء الاصطناعي على واجهة خدمة الزبائن تحصل على نتائج أفضل من تلك التي لا تفعل ذلك. فمثلا، تساعد روبوتات المحادثة المخصصة لخدمة الزبائن المتسوقين، طوال فترة تسوقهم وحتى بعد ذلك. فهي متاحة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع لتقديم ردود مخصصة على استفسارات المستخدم، بناءً على تقييم مسبق لنبرة المستخدم وسلوكه. يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على جعل الناس يشعرون بالخصوصية، من خلال تقديم حلول لمشاكل خاصة جدا، سواء في العمل أو في الحياة.

الثورة الحقيقية للذكاء الاصطناعي تتمثل في قدرته على التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها، ولنا أن نتخيل أهمية ذلك على مستقبل البشرية التي تواجه اليوم تحديات بيئية متزايدة. لا يكتفي للذكاء الاصطناعي بتحليل الإحصائيات الحالية فحسب، بل يتنبأ أيضا بالمنحنيات المستقبلية بناء على مجموعة من الأنماط. بتوفر مثل هذه المعلومات، سيصبح بإمكاننا الاستعداد لأي شيء، بدءا من حالات الطوارئ المناخية مثل الأعاصير وحرائق الغابات، وصولا إلى أزمات الاقتصادية. إلى جانب أخذ الاحتياطات اللازمة والاستعداد للطوارئ، يمكن استخدام تحليل الذكاء الاصطناعي للسعي نحو تحسين مؤشر جودة الحياة.

هذه هي الطرق التي يمكن أن يساهم من خلالها الذكاء الاصطناعي في تحسين العالم وجعله مكانا أكثر أمانا وأجمل للعيش فيه. يجتهد الناس دائما للوصول إلى طرق وأساليب تحسن ظروف حياتهم عملا بالمقولة “الحاجة أم الاختراع”. الحاجة هي ما أتاح للبشرية الفرصة لتطوير التكنولوجيا التي مكنتهم من السير على طريق التقدم. ومع تزايد منصات الذكاء الاصطناعي، يبدو المستقبل أكثر إشراقا من أي وقت مضى. وهذا كله مجرد بداية.

صحيفة العرب

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *