العالم

إن من الاسئلة التي لازمت الإنسان مذ بدايات وعيه بالوجود في تجلياته الشاملة، هو سؤال العالم الذي يحيا فيه وبه،  إذ نرى كيف يصنع هذا العالم وترسم خرائطه ويتشكل في تمثلات هذا الإنسان الذي يتميز بهمة لا تعرف مستحيلا في قاموس تعرفها وتملكها لمفاتيح هذا الوجود في إحدى تمظهراته التي اصطلح عليها باسم العالم.

ومن ثم فالعالم عوالم كثيرة بعدد تصورات الخلائق ورؤاهم، فمنذ الوعي الإنساني المبكر وهو يحاول التغلب على مخاوفه التي يستثيرها في وجدانه ومخيلته هذا العالم الكبير والمجهول والغامض واللامحدود!!! ويسعى إلى “ترويضه” لكي يصير “أليفا” ومألوفا يمكنه من الاستئناس والأنس به .

لقد حاول كل من قارب الظواهر الإنسانية واقترب من مكنوناتها أن يفسر وجوه العلاقة بالعالم من خلال الرؤى المحددة والتي غالبا ما اختصرت في ثلاث رؤى رئيسية هي الدين والعلم والفن، حيث اقتدر الإنسان بالرؤية الدينية للعالم أن يجاوز ذاته والعالم ويمسك بمفرداته في شموليتها ونهائيتها من خلال الإيمان الذي يمده بالتأطير الكلي حالا ومآلا، وبمكن اعتبار مقاصد مجاوزة الذات والتعالي عن العالم مشتركة بين هذه الرؤى الثلاث غير أنها تختلف من حيث الوسائل التي يتوصل بها إليها، فإذا كانت الرؤية الدينية للعالم تعتمد الإيمان أساسا ومقدمة للعلم والعمل، فإن الرؤية العلمية جعلت من العقل وسيلة يتوصل بها إلى المطلوب من العالم في وجهه الحسي والطبيعي أو المادي، فكان ما بات معروفا من الكشوفات التي غيرت تمثلات الإنسان لنفسه وللمحيط من حوله، والتي شملت ميادين الطب والفلك والجغرافيا وغيرها والدخول في عصور التوسل بالأدوات والآليات التي بها اقتدر الإنسان على بسط سيادته على الطبيعة  وتسخيرها إذ غذت الأدوات التي امتلكها الإنسان امتدادا لجسده يكبر بها ويسمو على صغره الذي غالبا ماعابه عليه كثير من الفلاسفة في صور قريبة من التهكم على “الوهمية” التي تسيطر على الإنسان في مقاربته للعالم الكبير وهو  ليس إلا مجرد جرم صغير، فالتطورات التقنية الهائلة المتسارعة إلى اليوم قد حققت رغبة الإنسان في مضاهاة العالم الكبير الفسيح، بل التفوق عليه من خلال الشعور بالهيمنة عليه، والتحكم فيه والقدرة على توقع حركاته وتحولاته.  

في حين نهج الفنان طريقا آخر في تشكيل رؤيته للعالم، يقوم على التخييل وإبداع وتصور عوالم ممكنة، ليست بأحلام أو استيهامات غير واقعية بل هي بناءات رؤيوية للعالم وثيقة الصلة بالمعيش والمأمول يمكن اعتبارها أبلغ من الخطاب المباشر والمكشوف.

فالإيمان والعقل والخيال وسائل للمعرفة والتعرف على العالم أو العوالم التي بها يستطيع الإنسان أن يخرج من سجن العالم اليومي وضغوطه وبنفلت من استهلاكيته المخيفة والمميتة، والتي ازداد إيقاعها سرعة وكثافة مع اكتشاف الإنسان للقارة السادسة التي بات العالم الافتراضي وما يسمى بالحياة الثانية يستوجب مواكبة فلسفية واجتماعية وقيمية، حيث يمكن اعتباره بعدا جديدا ينضاف إلى البعد الواقعي والمشخص في علائق الإنسان بالعالم اليومي، والذي لم يتسن الخلاص منه وتخليصه في نفس الآن من الرتابة والتآكل إلا بإمداده بالرؤية الجامعة  للدين والعلم والفن، والتي لا يعني الحديث عنها منفصلة أنها جزر معزولة بل هي أجوبة لأسئلة الإنسان العميقة والتي ما إن أحسن إعمالها في أبوابها بلغت بالكمال الإنساني المنشود إلى أقصى غاياته من الإعمار والتسخير والمسؤولية المآلية من أجل حفظ أسمى المقاصد وهي الحياة في العالم. 

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *