السميط... إفريقي أبيض من الخليج

الرئيسية » إبداع وتنمية » السميط… إفريقي أبيض من الخليج

لولا المرض ما عرفوه. هكذا يمكن البدء في الكتابة عن الدكتور عبد الرحمان السميط الذي قرأت خبر نعيه قبل فترة، دون أن أكون سمعت عنه من قبل.

لكن من هو عبد الرحمان السميط؟.

هناك نوع من البشر يكون أكثر حركة من الآخرين، لكن الذين يتحركون يوميا في دروب الحياة قد لا يرونه، لأنه يكون أسرع منهم، ويمر بشكل خاطف وسط الزحام لا يلتفت إلى أحد، ولا يلتفت إليه أحد.

وفي الحياة كثيرون من هذا الصنف، لكنهم قليلون إذا قسناهم إلى من يعمر الأرض من دون أن يترك فوقها أثرا لعين، وكأنهم يريدون أن يتحقق فيهم ما ورد في الحديث في وصف الجنة:”لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”، رغم أنها لم تقل عنهم، لكنهم يريدونها أن تكون وصفا لنوع من البشر خفيف فوق تراب الحضارة.

وقد يفاجئك أحيانا بعض الناس الذين يخوضون مغامرات في الحياة. ومن المفهوم أن يخوض البعض مغامرة في حياته لكي يعود ويحكي عنها، ولكي يحولها إلى مصدر فخر في حياته أو مصدر… دخل، لكن غير المفهوم هو أن يخوض بعض الناس مغامرة لكي لا يعودوا منها، وإذا عادوا لا يفضلون الحكي عنها، ولا يريدون أن تكون مصدر فخر ولا مصدر دخل، بل يريدونها أن تكون فقط مصدر إشعاع يشع على قلوبهم فيملأها سعادة وحبورا.

هؤلاء مغامرون مختلفون، بل غريبو الطباع، فقد جرت الطباع البشرية على أن لا يقوم المرء بعمل وإلا وهو ينتظر جزاءا عليه، مهما كان هذا الجزاء، حتى لو كان مجرد كلمة شكر، مع أن هذه الكلمة قد تكون كبيرة بالنسبة لنوع من الناس، لأنها على الأقل تعطيهم الشعور بأن عملهم لم يذهب سدى.

فما بالك بناس لا يريدون جزاءا ولا ينتظرون مقابلا، لأنهم يعملون لشيء آخر وهو قناعتهم الخاصة التي يحملونها في ضمائرهم.

والدكتور عبد الرحمان السميط هو من هذا النوع من البشر، لكن لولا المرض ما عرفه الناس، ولولا المرض ما كتبت هذه الكلمات عنه، تريد أن تسد واجبا على صاحبها.

ولكن السؤال الذي طرحناه في البداية ما زال معلقا. من هو عبد الرحمان السميط؟.

هو مواطن كويتي، ولد عام 1947، وفي السبعينات حصل على الباكالوريوس في الطب ببغداد، ثم توجه إلى بريطانيا لاستكمال دراسته حيث حصل على دبلوم في أمراض المناطق الحارة، ثم رحل إلى كندا ليتخصص في مجال الجهاز الهضمي والأمراض الباطنية، وعمل طبيبا في بريطانيا بعد التخرج إلى 1980. بعد ذلك عاد إلى الكويت للعمل بها، حيث اشتغل طبيبا حتى 1983.

هذه سيرة الرجل في أربعة أسطر، وهي لا تختلف كثيرا أو قليلا عن الآلاف أو الملايين من السير الذاتية لأشخاص درسوا الطب وأصبحوا أطباء. بدأوا رحلتهم من البيت إلى المدرسة ثم الجامعة ثم المستشفى الذي انتهوا إليه. رحلة قصيرة جدا، رغم أنها قد تستغرق أربعين سنة من عمر الإنسان.

ولكن سيرة السميط مختلفة تماما، فخلال مسيرته في الحياة كان يحاول أن يعطي للحياة. ويروي بأنه عندما كان طالبا كان يرى كل صباح مجموعة من العمال العرب العاملين في الكويت ينتظرون على جنبات الطريق وسيلة نقل تقلهم إلى عملهم، فقرر أن يجمع من الطلبة دولارا لكل واحد واشترى رفقة بعض زملائه سيارة بسيطة، وبدأ ينقل أولئك العمال إلى أماكن عملهم بالمجان. وتلك كانت هي البداية. وكما هو واضح، فقد كانت بداية مجنونة، لأن كل عمل عظيم يبدأ على شكل انحراف عن قاعدة معينة يتعارف عليها الناس، وسرعان ما يبنون عليها بنيانا يقفون عليه صباح مساء للتبرك.

وعندما أصبح طبيبا كان لا يكتفي بعمله كطبيب، تقف المهنة حاجزا بينه وبين المرضى، بل كان يتقرب منهم ويعيش مشكلاتهم الاجتماعية ويسعى في قضاء حوائجهم. وفي عام 1980 كان من مؤسسي لجنة مسلمي ملاوي في الكويت، وفي عام 1987 أسس مع آخرين اللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة، والهيئة الخيرية الإسلامية العالمية. وبدأت حياته تتسع وتكبر، وبدأ يرى بعيدا بألف عين.

ويقول السميط إنه كان دائما يحلم بأن يعمل في إفريقيا بعد إنهاء دراسته في الطب. وتحقق الحلم عندما طلبت منه زوجة أمير الكويت السابق جابر الأحمد الصباح أن يبني لها مسجدا خارج الكويت في بلد محتاج، فقرر بناء مسجد في جمهورية ملاوي. وعندما ذهب إلى هناك رأى أمرين: الفقر والتبشير. فقد كانت الكنائس متجاورة مع بعضها كالبيوت لكثرة أعدادها، بينما كان هناك مسجد وحيد مبني من القش، كلما أكلته بقرة جائعة جاء الناس فبنوه من جديد. مائدة حلالا هبطت من السماء للبهيمة السائبة.

وهكذا قرر السميط أن يبقى في إفريقيا، رغم أنه كان يمكن أن يرجع إلى الكويت ليعيش كما يعيش الملوك. فقد كان على مستوى من الثراء، وكانت زوجته بالغة الثراء إذ ورثت أموالا طائلة من أسرتها حسب روايته هو، لكنها فضلت التصدق بها على الفقراء والأيتام والمساكين، وقررت أن ترافقه إلى إفريقيا لكي يعيشا هناك مع بؤساء فيكتور هوغو، حيث الملايين من”كوزيت”، ومئات الملايين من”جون فالجان”، وحيث لا مدارس أو معاهد يتعلم فيها الملايين من”كارفوش”.

ويقول السميط إنه كان يقضي حوالي عشرة أشهر في السنة في إفريقيا، ولا يرجع إلى الكويت لرؤية أبنائه إلا شهرا أو شهرين كل عام، يقضي جلها في السفر بين بلدان الخليج، ويحكي أيضا أن أبناءه كانوا يفرون منه كلما رأوه، لأنهم ينسون صورته ولا يكادون يتعرفون عليه. وعندما بلغوا السن المناسب حملهم معه إلى إفريقيا لكي يعيشوا معه داخل المستنقعات ويأكلوا مما يأكل منه فقراء إفريقيا.

حصل السميط على عدة جوائز وأوسمة تتويجا لأعماله الخيرية العظيمة، لكن أوسمته الأكبر هم 6 ملايين إفريقي اعتنقوا الإسلام علي يديه، وبناء حوالي 1200 مسجد في القارة السمراء، ورعاية قرابة عشرة آلاف يتيم، وحفر قرابة 2750 بئرا ارتوازية. وكلمة بئر قد لا تعني شيئا للكثيرين عندنا، كما قد لا تعني كلمة خبز شيئا، ولكنها تعني في إفريقيا آلاف الأشياء، بل تعني الشيء الوحيد الذي له معنى. ويقول السميط إنهم أحيانا ـ أسرته وهو ـ كانوا يقضون سبعة أيام بدون غسل، لأنه لا وجود للماء.

والأرقام المذكورة أعلاه قد تبدو غريبة. بل غريبة فعلا. إنها عمل دولة. ونحن نرى أنها لا تقوم بها حتى مؤسسات تشترك فيها عشرات الدول العربية أو الإسلامية، لديها ميزانيات تفوق الخيال. ولكن السميط استطاع وحده تحقيقها خلال حوالي ثلاثة عقود من الزمن. ولو أنه قضى تلك المدة يعمل في الكويت لبنى عشرات العمارات السكنية والمتاجر، وأصبحت مهمته هي أن يدور عليها في نهاية كل شهر لكي يجمع فيئها، ويضع رجلا على رجل داخل قصره ويراقب مغيب الشمس كل مساء.

ولكنه فضل أن يلتحق بركب العظماء، وأن يسجل إسمه بين السابقين إلى الخيرات، ويكون في الطليعة، بدل أن يكون في الذيل مع الأثرياء ورجال الأعمال في العالم العربي الذين يلهثون وراء الدنيا ويسيرون ببطء متوهمين بأنهم يسرعون، لكنهم لا يصلون أبدا، لأن أموالهم تثقلهم، وما تجتمع السرعة مع الوزن.

ورغم أنني ضعيف في الحساب، إلا أنني أتساءل: ماذا لو كان لدينا آلاف من هذا الشخص في العالم العربي؟ وماذا لو كان لدينا نصف سكان العرب من أمثال هذا الرجل؟.

قبل حوالي أسبوع لم أكن أعرف شخصا بهذا الإسم، لكن أخبار مرضه ودخوله في غيبوبة في أحد مستشفيات الكويت ملأت الأخبار العربية. وعندما قرأت عنه ظننت أنني أقرأ عن رجل خرج من رواية خيالية.

ورغم أن السميط كان يعمل في خفاء، ويبتعد عن الأضواء، إلا أن الإعلام العربي كان يحاول السكوت عنه. فقد جرت العادة أن نتابع أخبار الفنانين والرياضيين والسياسيين الذين لا يقولون كلمة واحدة صادقة، ونصمت على العظماء الحقيقيين الذين يشكلون النموذج، لأن ثقافتنا تخاف من العدوى، وتخشى أن تنتقل عدوى العظمة إلى أبنائنا، ونحن أمة لا نريد بيننا عظماء. 

إدريس الكنبوري

@@

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *