الذكاء .. فطرة تحتاج تنمية

الرئيسية » حياة وتكنولوجيا » الذكاء .. فطرة تحتاج تنمية

الذكاء .. فطرة تحتاج تنمية

الذكاء من القدرات العقلية التي يتمتع بها المخ البشري، هذه القدرة لها جانب فطري طبيعي يولد مع الإنسان ويتطور معه، بينما الجزء الآخر يتميز بالقابلية للنمو والتطور مع اكتساب المهارات والتدريبات اللازمة، ويمكن تعريف الذكاء على أنه القدرة الطبيعية على التحليل والاستنتاج والتعريف والمقارنة بين مختلف المعلومات والمعطيات، للوصول إلى نتيجة منطقية تتسق مع الواقع وتنتمي إليه، وعلى الرغم من اختلاف علماء النفس وأطباء الأعصاب في تعريف الذكاء، إلا أنهم جميعاً اتفقوا على عدم وجود أي علاقة بينه وبين التحصيل الدراسي أو قوة الذاكرة أو ضعفها، ولم يربط أحدهم بين الذكاء والقدرات الفنية الاستثنائية مثل النبوغ في الغناء أو العزف على الآلات الموسيقية أو القدرة الخارقة على حفظ أبيات كثيرة من الشعر مثلاً أو الاستذكار المثالي للمواد الدراسية أو غير ذلك من القدرات العقلية، إلا أن البعض منهم اعتبر الذكاء عنصر داعم للقدرات الاستثنائية لأنه يوجه إلى حسن استغلال هذه المواهب وإلى توجيهها إلى الاتجاه السليم والمثمر.

من الغريب أيضاً إجماع العلماء على أن القدرات العقلية البشرية غير محدودة، ولكن ما توصل إليه العلم مجرد قشور، ولا يزال الطريق طويلاً أمامهم لاستكشاف القدرات العقلية للإنسان، والتي يلعب المخ الدور الأبرز فيها، ومن الضروري هنا لتوضيح الفكرة شرح التركيب البنيوي أو التشريحي للمخ، حيث يتكون من الفصين الأيمن والأيسر ومنطقة المخيخ وقشرة المخ والجذع، ولكل جزء منها وظيفة محددة يقوم بها مستعيناً بمراكز حسية تؤدي أدواراً رئيسية في الحركة والإحساس والكلام والتفكير وغيرها من المتطلبات اليومية، وما يعنينا هنا الفصين الأيمن والأيسر، وبالطبع هناك أناس يستخدمون فص المخ الأيمن ويتسمون بالقدرة على الإبداع والابتكار أكثر من مستخدمي الفص الأيسر، كما يتميزون بالذكاء العاطفي والميل إلى الشعر والموسيقى والأدب الرومانسي ودراسة الفلسفة، بينما يميل مستخدمو الفص الأيسر من المخ إلى دراسة المنطق والرياضيات والعمل في مجال الحسابات والهندسة، ولا يجدون متعة في متابعة قصة عاطفية أو القيام بنزهة في النهر مثلاً، إلا أن الدراسات الحديثة أكدت وجود استعداد لدى مستخدمي الفص الأيسر لاكتساب المزيد من التطور على ذكائهم الفطري، كما أنهم يتمتعون بسرعة الاستجابة التعليمية للمواد الدراسية وتساعدهم قدراتهم على استخدام طاقة ووقت أقل في إنجاز مهامهم بصورة أوفر من مستخدمي الفص الأيمن.

ونعود إلى الذكاء فنذكر ما أكدته دراسة أمريكية حددت نسبة الذكاء الوراثي بما يقارب 75% من النسبة العامة التي يتمتع بها الفرد، بينما يكتسب نسبة الربع الباقي من التجارب والمحاولات المدروسة لرفع معدل ذكائه، وقالت الدراسة أن تنمية الذكاء الفردي يعتمد على توسعة المدارك بالقراءة الحرة والاطلاع على تجارب الآخرين في الحياة العامة أو حتى المهنية، ولا يعني اهتمام الطفل بكرة القدم مثلاً ونبوغه فيها أن نطور موهبته الرياضية فنحثه على التدريب وضمه إلى الأندية المهمة، ونتوقف عن دعم وتنشيط رغبة التعلم داخله، فلاعب كرة القدم لابد أن يهتم بالمنطق والفلسفة واللغة والعلوم البيئية، ولا يمكن تنمية ملكة الذكاء العقلي من دون القراءة في كل المجالات بصرف النظر عن التخصص، كما تفيد بعض الألعاب العادية في تنشيط خلايا المخ المسؤولة عن التفكير واتخاذ القرار، وتلك الألعاب تحافظ على لياقة المخ ليتمكن من القيام بوظائفه كما يجب، وبالضبط كما يحتاج الجسم إلى التمارين الرياضية للحفاظ على لياقة العضلات تحتاج خلايا المخ إلى التدريب المتصل لحماية لياقتها وصيانة أجزائها ما يعينها على القيام بمهامها، والألعاب التي نقصدها هي التي تتطلب التفكير مثل الشطرنج وألعاب الحاسوب المخصصة لتنمية الذكاء والمكعبات التي يجب ترتيبها وكذلك الكلمات المتقاطعة واستكمال الرسوم الناقصة، وغيرها من الألعاب، كما تسهم لعبة اليوجا في توفير فرصة الراحة والتأمل للمخ، وبالتالي تسهم في رفع مستوى الذكاء، ويبقى عنصر النوم كوسيلة أساسية ومساعدة للمخ على ترتيب أولوياته وشحن طاقاته، لذا يجب الحصول على قسط كاف منه يومياً.

ومن المهم البدء في تنمية ذكاء الطفل في مرحلة مبكرة من طفولته، قبل سن المدرسة، ويميل كل الأطفال في سن العام إلى العبث بمحتويات المنزل وسحب مفارش الطاولات للحصول على ما تخفيه الأم فوق هذه الطاولات حيث لا تطاله أيديهم، وتبدأ أول بوادر هذه الأمور في تلك السن بالتوازي مع خطواته الأولى التي تعتبر بالنسبة له جواز المرور إلى محتويات المنزل، ويجب على الأم توفير الألعاب للطفل في هذه المرحلة، بحيث تنشئ له ركناً خاصاً في المنزل يضم ألعابه وكل أغراضه، ويجب توافق هذه الألعاب مع سنه في هذه المرحلة، لأن اللعبة التي يفشل في التعامل معها ستربي داخله عقدة ربما تستمر معه مدة طويلة ويتذكر فشله في فهمها كلما زاده الوالدان لعبة جديدة، كما يجب تغيير هذه الألعاب كل 6 شهور لتتماشى مع سرعة نموه العقلي وتعطشه الدائم إلى المعرفة واللعب، فلابد من استغلال حب الاستطلاع الزائد الذي يبديه في تعليمه المزيد من الخبرات، كما يجب على الوالدين ملاحظة تطور مستواه من حيث الذكاء للوقوف على أي مشكلة مرضية ربما تعيق تنمية ذكائه أو تستفحل فيما بعد في حال إهمال البحث عن علاج لها، ولعل من الأنسب عرض الطفل على طبيب مختص للوقوف على الحالة ولقياس مستوى ذكائه كل مدة زمنية محددة.

وفي مرحلة ما قبل المدرسة يمكن للأم أيضاً تنمية خيال الطفل، وبالتالي ذكائه، إذا استعانت بالكتب التي تنشر القصص الملونة للأطفال، وبالطبع عليها سرد القصة له مع عرض الصور ليتسنى له إدراك المضمون، حيث لن يتمكن الطفل من القراءة في سن السنوات الثلاثة أو حتى الأربعة، ومن الأفضل البدء بالقصص الشفهية التي توسع حقول الإدراك الحسي لديه ومن ثم اللجوء إلى القصص المصورة.

وفي المرحلة الدراسية يصر بعض الآباء على منع الأطفال من مطالعة أي مجلات أو كتب تخرج على المنهج الدراسي متخيلين أنها ربما تشغلهم عن الدراسة، بينما تؤكد الأبحاث أن الكتب المخصصة للأطفال والمجلات المصورة تدعم بشكل كبير قدرات الطفل المتعلقة بالذكاء والتحليل المنطقي وتسهم في توسيع مداركه والفهم الأعمق لأبعاد المجتمع ومتطلباته، ومن الخطأ الاعتقاد أنها ستعطله عن الدراسة، بل أكدت الأبحاث التربوية أن الطالب النابغ كثير الاطلاع والقراءة ولا يرتبط فقط في اطلاعه بمناهج الدراسة، بل يطالع الكتب بانتظام في مكتبة مدرسته حتى خلال أيام الامتحانات.

وتسهم كتب العلوم في رفع كفاءة القدرات العقلية للطفل، خاصة إذا تناولت تكوين الكرة الأرضية والمعلومات الجغرافية والعلمية المختلفة عن قوانين الطبيعة وكيفية حدوث المطر والجاذبية الأرضية وعلوم الفلك البسيطة وتركيب جسم الإنسان ووظائف الأعضاء وغيرها من المعلومات الأولية التي تفتح مع الوقت المزيد من أبواب المعرفة.

وتشير الدراسات الحديثة إلى دور الفنون في تنمية ذكاء الأطفال، ولذلك توصي بفتح المجال أمام الصغير لينقش برقة أول خطوطه على جدران المنزل، ويجب عدم عقابه إذا قام بذلك، بل علينا فهم التقصير من جانبنا إذ لم نوفر له لوحاً أبيض ليرسم عليه، وإذا لاحظنا اهتمام الطفل بمجال الخزف أو التكوينات التشكيلية كذلك علينا تشجيعه بتوفير قدر بسيط من الخامات للتعرف إلى طريقة استخدامها من جانبه، ولا مانع من تشجيعه على الغناء أو اختيار آلة موسيقية للعزف عليها، أو تشجيعه على أداء مشهد تمثيلي سبق له رؤيته على التلفاز وراودته رغبة في تقليده، فكل هذه الملكات تنتمي إلى مجال الموهبة الفطرية، ويسهم تطويرها وصقلها في دعم ذكاء الطفل وقدراته العقلية، بينما يؤدي أسلوب النهر والتعنيف إلى تراجع اهتمام الطفل بموهبته اعتقاداً منه بأنها تغضب الوالدين، وربما تلعب الأنشطة المدرسية المدروسة دوراً بشكل أو بآخر في تنمية ذكاء الطفل ولكن يجب عدم الاعتماد الكلي عليها، بل على الوالدين النصيب الأكبر من تلك المسؤولية.

على أن ما يثير التعجب حقاً ما توصلت إليه الدراسات الحديثة من دور الرياضة البدنية في دعم الذكاء العقلي، حيث أشارت إلى أن النشاط البدني يعمل على توزيع الغذاء على الخلايا بشكل متوازن ومن ضمنها خلايا المخ التي تتغذى من خلال شعيرات دموية رقيقة وصغيرة للغاية، وبالطبع تتأثر القدرات العقلية ــ ومن بينها الذكاء ــ بانخفاض معدلات التروية الدموية مهما بلغت دقة ذلك الانخفاض، ولعل ذلك ما يفسر تراجع هذه القدرات لدى كبار السن، ومشكلات الذاكرة لدى تلك الفئة، وتؤكد تلك الدراسة أن الألزهايمر مثلاً لا يصيب إلا العقول التي لا يهتم أصحابها بملئها بالأنشطة والمهام، ويصيب العقول الفارغة من المعلومات والبيانات، على الرغم من اكتشاف علاقته الوطيدة بالوراثة مؤخراً.

ويعتبر التدريب من أهم العناصر المؤيدة للذكاء والداعمة له من الناحية الفنية، وهو يمثل نسبة قليلة من الـ 25% الباقية المكتسبة، ويسمى التدريب المتخصص نظراً لأنه محدود بنوع واحد من الذكاء، ومثال ذلك التدريبات التي يتلقاها المهنيون العاملون في مجالات تتطلب حسن استغلال القدرات العقلية مثل رجال التحقيقات الجنائية أو اختصاصيي الطب الشرعي أو غيرهم ممن تتطلب أدوارهم المهنية استنباط النتائج من المقدمات، والوصول إلى الحقائق من خلال التحليل المنطقي المعتمد على الفطنة الشخصية للشخص، بعيداً عن تراكمات الخبرات المهنية أو بالأحرى قبل حصوله عليها.

ويبقى الذكاء العاطفي الذي يفصل بين شخص وآخر، ويمكن وضع تعريف بسيط له بأنه حسن إدارة المشاعر وترشيدها بما يخدم أقصى حد ممكن من احتياجاته الاجتماعية والنفسية، ويضمن تحقيق طموحاته، وعلى الرغم من فقر الأبحاث في ذلك الجانب إلا أن هناك نتائج عديدة تشير إلى أهمية الذكاء العاطفي في توافق الفرد مع باقي أعضاء المجتمع، ويستلزم ذلك أن ندرك جيداً إمكاناتنا الذاتية من الناحية العاطفية قبل الشروع في استخدامها، كما يتطلب القدرة على إدارة هذه العواطف إذا وجهت للغير، والعكس بالعكس، أي القدرة على فهم عواطف الآخرين والتعامل معهم طبقاً لمعطياتها.

يستطيع العقل الباطن القيام بدور لدعم مفهوم الذكاء العاطفي، ذلك ما أوضحته الدراسات الأخيرة في مجال الطب النفسي، إذ تبين وجود مراكز عاطفية في المخ تشبه الخزانة الشعورية، تستطيع هذه المراكز تنبيهنا إلى ضرر أو مخاطر أو حتى شبهة الضرر التي ربما تلحق بنا حال الاتصال العاطفي بالآخر، وتقوم بإنذارنا في حالة وجود تجارب سابقة نتج عنها مشكلات أو حصيلة سلبية، ولهذا التنبيه أهمية كبرى في إنقاذنا من استنزاف عواطفنا فيما يضر أو لا يفيد.

ويستطيع الإنسان تنمية ذكائه العاطفي بصورة أكبر بكثير من ذكائه العقلي، لأنه يتميز بالمرونة والتأثر بمعطيات المجتمع اليومية، وعلى سبيل المثال لو اتسم موظف بالإهمال سيقوم رئيسه بتحذيره مرات ومرات وربما يلجأ للخصم من راتبه أو إنذاره، ولكن إذا استخدم معه مرة عبارات الثناء والمدح في حالة إنجاز عمل واحد جيد فسوف يتغير سلوك الموظف إلى تحري الدقة في أدائه أملاً في فتح نافذة جديدة للتفاهم بينه وبين رئيسه، أو تجنب المزيد من العقاب ولكن بطريقة لا تنطوي على الإذعان أو الرضوخ القسري لطلبات رئيسه.

في كثير من الأحيان نجد مشاجرة بين شخص وزوجته تنشب لسبب تافه، ربما لتأخر الزوجة في إعداد الطعام لزوجها مثلاً، ولا يتمتع الزوج بالذكاء العاطفي اللازم للتعامل مع الموقف، فيبدأ في إحالة الشتائم والسباب لها وربما يعتدي عليها جسدياً، حيث إن جوعه منعه من استثمار العاطفة التي تحكمه في ذلك الموقف، ومن جانب آخر إذا تعرض زوج يتحلى بذلك النوع من الذكاء لنفس المشكلة فسوف يبادر إلى مساعدتها في إعداد الطعام، وهنا استطاع الحصول على أكثر من نتيجة إيجابية، منها ضمان تناول الطعام في مدة زمنية أقل، وتقدير معنوي من الزوجة لرجل يحترمها ويقدر مجهودها المنزلي، علاوة على شعوره بالتوازن والرضا بعد تقديم مساعدة لشخص يحبه.

جريدة الخليج

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *