الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج 2/4

الرئيسية » علم وحضارة » الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج 2/4

استشراف علمي أم رجم بالغيب؟

المستقبل في أبسط تصوراته عبارة عن(1):

  1. تطور سلبي أو إيجابي للماضي 
  2. عملية تطور للماضي 
  3. عملية تحول للماضي من حالة إلى أخرى. أما المستقبل الذي يعنيه المهتمون بالدراسات المستقبلية فهو بالتأكيد ليس الغيب، الذي اختص الرحمن سبحانه وتعالى بعلمه، بل هو نهج الحياة الذي دعانا تبارك وتعالى إلى أن نصوغ وفق متطلباته وجودنا، والذي نريد أن يحياه أولادنا في غد مقبل، ونحن جميعا مطالبون بأن نعمل ونخطط ونبحث ونستخدم نتائج العلوم وحصاد التجربة الإنسانية لضمان تحقيقه؛ فالعمل من أجل المستقبل عقيدة إيمانية، وضرورة مؤكدة، وفريضة حضارية. وهذا ما تجلى بأبدع صورة في الخطة المستقبلية الحكيمة التي وضعها نبي الله يوسف عليه السلام في تأويله لرؤيا الملك، وقد وردت في الذكر الحكيم تتلى إلى يوم القيامة لاستخلاص العبرة منها، قال تعالى: “يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ. قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ” (يوسف: 46-49).(2)

والأحداث التي تحدث في المستقبل هي في الواقع تغيرات تنتج عن تفاعل قوى ديناميكية مستمرة، والتعرف على تلك القوى الديناميكية يستلزم طرح بعض الافتراضات عن المستقبل؛ ومنها الافتراضات التالية(3):

  •  أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل مختلفة عن الماضي.
  • أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل سيكون من الصعب التنبؤ بها. 
  • أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل ستكون أسرع من ذي قبل. 
  • أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل يمكن معالجتها من خلال توفير المعلومات الدقيقة. 
  • أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل يمكن معالجتها بأساليب موضوعية بعيدة عن التأثير الشخصي. 

ولكن معيار العلمية والمنهجية لا يكمن في استخدام العلم للفرضيات فحسب، بل هو يكمن في منطقية هذه الفرضيات ومعقوليتها، إلى جانب تناسقها وترابطها فيما بينها، وأخيرًا في قدرتها على فتح آفاق جديدة للبحث. وعليه يمكن عرض الفرضيات المنطقية التي تستند إليها الدراسات المستقبلية كما يلي(4):

  •  قراءة التاريخ هي بداية التفكير العلمي في المستقبل. مع ملاحظة أن الماضي ليس الهدف، بل الهدف هو المستقبل، وأن الغاية من دراسة الماضي هي مراقبة الحاضر، وتفسير أحداثه، وتداعياته، إعدادًا للمستقبل. 
  • التاريخ من منظور وظيفته تاريخان؛ تاريخ عبء ويعني الوقوع في وهم استعادة الماضي، وأمجاده، بأشكاله وصوره، وتاريخ حفز وهو الذي يجعل المرء يحس بمشكلات حاضره، وبآمال مستقبله، إحساسًا مدركًا دقيقًا. 
  • بداية الطريق لكل إصلاح وتغيير للحاضر وتنمية للمستقبل تبدأ بتغيير الإنسان، وهذا هو القانون الإلهي في الحضارة: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11). 
  • من المستقبل ما يمكن التنبؤ به، فإن الله سبحانه وتعالى قد أجرى -بحكمته- الكون والمجتمعات على سنن كشف منها ما كشف للإنسان. 
  • مستقبل أي مجتمع، أو جانب منه، لا يصح النظر إليه أو معالجته بعيدًا عن السياق أو الكل الذي ينتمي إليه ويتفاعل معه. بحكم العلاقة بين سياقات المجتمع كافة، بل وبين المجتمع وغيره من المجتمعات. 
  • المستقبل الذي نسعى إليه ليس مستقبلاً واحدًا لا فكاك منه، بل أمامنا في الواقع عدة أوجه من المستقبل، وعدّة خيارات لما نود أن نكون عليه، وفق إمكاناتنا، وقدراتنا، وتحديد أهدافنا، وعزمنا على أن نصل إلى ما نود أن نكون عليه. 
  • المستقبل يمكن صنعه وإبداعه وتوفير متطلباته ومستلزماته – بتوفيق الله- وصولاً إلى ما اخترنا أن نكون عليه، في ضوء قيمنا وثقافتنا وغايتنا وأهدافنا، كما يمكن الاستسلام، والإذعان لما يأتي به، حتى ولو كان صدمة أو عدة صدمات. 
  • الزمن عامل حاسم ومورد فعال في إحداث التغيير؛ بحكم امتداده ومرونته وبحكم قابليته للإخضاع والتنظيم والتوجيه. 
  • يحتاج النظر العلمي للمستقبل إلى وسائل وأساليب ومناهج وتقنيات علمية والقدرة على التحليل، ومن ثم التركيب، إلى جانب الحدس، والقدرة على التصور مع الإحاطة والنظرة الشمولية. 
  • يجب أن ننظر إلى المستقبل على أنه لن يكون امتدادًا واطرادًا خطيًا لما هو قائم، ولا استمرارًا لاتجاهات تحددت من قبل، أي أن الرؤية المستقبلية لا ينبغي لها أن تستند فقط إلى الأساليب الإسقاطية التي تقوم على التعرف على أنماط العلاقات السائدة، ومحاولة مدها في المستقبل، وتوظيفها توظيفًا مباشرًا في تحليل احتمالاته. 

ويطلق في كثير من الدراسات على عملية التنبؤ العلمي بالمستقبل اسم «الاستشراف». والاستشراف «يحمل في مضمونه اللغوي معاني النظر إلى شيء قادم من بعيد، والتطلع إليه ومحاولة التعرف عليه، واتخاذ أسباب الوصول إلى ذلك بدقة، كالصعود إلى مكان مرتفع يتيح فرصة استطلاعه قبل وصوله»(5).

حتمية أم احتمال؟

أفرز التفكير السلبي متمثلاً بالإيمان بالحتمية التي لا دخل للإنسان فيها ثلاثة اتجاهات سلبية نحو المستقبل، وهي الاتجاهات التالية(6):

  1. الاتجاه الأول: يقين بلا حدود بقدرة العلم والمبتكرات التكنولوجية على صنع المعجزات وحل كل مشكلات البشرية في المستقبل. وهو اتجاه ضار وخطير لأنه يشجع على الرضا بما هو قائم، اعتمادًا على آمال مفتوحة بغير حدود، وغير مسوغة.
  2. الاتجاه الثاني: يرى أن ضرر العلم والتقنية الحديثة يفوق ما قدمته للبشرية من خدمات؛ فلقد تجاوز العلم قدرة الإنسان على التحكم فيه والسيطرة عليه، وأن التحديات التي تواجه العالم أصبحت غاية في التعقيد، ولا أمل لحلها، ولم يعد في مقدرة الإنسان مواجهتها لتعقّدها ولكثرتها.
  3. الاتجاه الثالث: وهو العيش في كنف الماضي، أو الحنين إلى الماضي، ويسمى مرض الحنين إلى الماضي، وأنصاره لا يرون خيرًا في الحاضر، وهذا الاتجاه يرى في الماضي النموذج الأمثل للمستقبل، فهو يسقط المستقبل إسقاطا خلفيًا على الماضي. 

وترتب على نقد هذه الاتجاهات السلبية نحو المستقبل أن جاء اتجاه ينادي بالتخلي عن الحتمية، والقول بأن هناك أشكالًا مختلفة للمستقبلات المحتملة، وأن التدخّل الملائم يمكن أن يرجح حدوث أحدها، وهذا يبرر عملية ارتياد المستقبل ومحاولة استكشافه، والبحث عن آليات وأساليب علمية للتحكم في اتجاهه. ولهذا أصبح الاهتمام بالمستقبل يركز على الأهمية الحاسمة للبدائل أو الخيارات المستقبلية، والتي تراوح فيما بين ثلاثة بدائل هي التالية(7):

  1. مستقبلات ممكنة: أي المجال أو الشيء الذي يمكن حدوثه في المستقبل، سواء كان جيدًا أو شيئًا محتملاً وغير محتمل. 
  2. مستقبلات محتملة: أي مستقبلات أكثر احتمالاً للحدوث في المستقبل؛ وذلك بناء على تطورات معينة أو مد الماضي في المستقبل. 
  3. مستقبلات مرغوبة أو مفضّلة: وهي المستقبلات المرغوب حدوثها في المستقبل. (وهي المستقبلات التي تعمل الدراسات المستقبلية على ترجيحها).

الهوامش:

  1. الثبيتي، جويبر ماطر والوذيناني، محمد معيض. الأساليب الكمية للدراسات المستقبلية. مكة المكرمة: جامعة أم القرى، مركز البحوث التربوية والنفسية، 1417هـ، ص 11
  2. الرشيد، محمد بن أحمد. رؤية مستقبلية للتربية والتعليم في المملكة العربية السعودية. د ن، 1421هـ، ص 35
  3. الثبيتي والوذينانين سابق، ص 8
  4. الرشيد، سابق، ص ص 28-35
  5. العواد، خالد إبراهيم. مؤشرات حول مستقبل التربية في المملكة العربية السعودية، أبها: ندوة استشراف مستقبل العمل التربوي في المملكة العربية السعودية، اللقاء السادس لمديري التعليم بأبها، 1418هـ.، ص 25 
  6. الرشيد ص 26
  7. زاهر، سابق، ص 59

محمد فالح الجهني / مجلة المعرفة: العدد 175

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *