الحلم والوجود

الرئيسية » الأعمدة » حروف » الحلم والوجود

الحلم، تلك الملكة أو الكفاءة أو الجبلة التي بها يقتدر الإنسان على السفر بدون قيود أو موانع، أو إجراءات تلزمه أن لا يبرح مكانه لا يحيد عنه، نعم ليس الحلم إلا ابن المخيلة التي تصنع وتبني وتؤسس وتنتصر وتنهزم مستثمرة مختلف الإمكانات التي بها يكون الزمان والمكان تحت سطوة الحالم يتصرف فيه كيف يشاء.

كتب الكثير عن التخييل وتمظهراته الإبداعية ودواعيه النفسية ، وكيف تتنافس الأمم والحضارات في مجالات الفنون التي تعتبر بصمتها الوجودية على صفحات التاريخ، ذلك لأن الفنون هي عنوان التسامي على الواقع والقدرة على الرحيل إلى عوالم أعمق وأغور، بحيث تخترق الأزمنة وتستطيع الخلود شاهدة على العبقرية الإنسانية التي لا تحدها حدود.

وليس غريبا أن نجد القدامى من أسلافنا يصطلحون على العلوم التي تعاهد أهل العلم على اعتبارها بناءات عقلية لا صلة لها بالتخييل باسم الفنون والصناعات، وهي تسميات عجيبة تختزل كثيرا من المعاني التي تمثل اللحظات الفكرية التي لا تقبل التجزيء والتفريق المفتعل بين ما هو عقلاني صلب وتخييلي رخو، وهي ثنائيات حادة أصابت حركة الإبداع الحضاري للإنسان، وساهمت في تفقيره وشل قدراته التواصلية بين مكوناته وعناصر إدراكه التي تتداخل كلها وتتضافر لتخرج للناس بشيء قد يكون شعرا، أو نثرا، أو اكتشافا علميا، أو اختراعا تنظيميا، إلى غير ذلك من تجليات الإبداع في مختلف المجالات، والتي يرجع مصدرها إلى الإنسان باعتباره تركيبا معقدا لا يقبل المفاضلة بين مكونات إدراكه، بل يفرض مراعاة حقيقة تكاملها وتحقيقها، وتمثل حقائقها  ووظائفها.

فالتكنولوجيا المتطورة لا تستند إلى مجرد الصياغات الصورية ولغة الأرقام الدقيقة، بل إلى خيال واسع يجعل  صاحبه لا يركن إلى المألوف والموجود والمعهود، بل يستشرف عوالم أخرى يمكن أن يصير المستحيل فيها ممكنا، والممكن واقعا، ولنا في تاريخ البشرية البرهان على ذلك كله.

إن أخطر ما يمكن أن تبتلى به أمة هو جفاف منابع التخييل والإبداع فيها، وانحسار مكامن الحلم الذي يعين على اختراق طباق المستقبل، والتخلص من نزعات الأنا المستغرقة في ذاتيتها والتي لا ترجو نفعا لغيرها، بل تقف عند اللحظة الحاضرة مجردة عن أبعادها الماضية والمستقبلية، في عجز تام عن تشكيل موادها وتوجيهها نحو الأفضل والأحسن والأكمل.

كلما كانت دواخل الإنسان مسكونة بالآمال والمحبة والصفاء كلما كانت أحلامه كذلك، تستشرف عوالم الجمال ،وتتخيل حلولا للمعقد من الأوضاع، في تعفف عن الربح السريع والآني الذي لا يقيم وزنا للآثار والتبعات والعواقب.

الحلم سفر بعدتي الصبر والتفاؤل، وزاد الحكمة والبصيرة والإيمان بالمسارعة إلى الخيرات، وليس استثمار آلام الناس وهواجسهم ومخاوفهم من أجل مآرب لا تلبي إلا شهوات حب الرئاسة والتسلط.

الحلم والرغبة في تحقيقه هو نبض الحياة، وهو فن الوجود الذي له مقتضياته المنهجية والتربوية والسلوكية التي تعتمد العمل والإنجاز وليس الكسل والبكاء على الطلل.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *