الحضارة والثقافة والمدنية وسؤال التجديد

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » الحضارة والثقافة والمدنية وسؤال التجديد

رغم ما تتميز به مفاهيم الحضارة والثقافة والمدنية من طابع إشكالي معقد، إلا أن الأدبيات الحديثة ذات الصلة تذهب إلى التمييز بين الحضارة كمكتسب إنساني شامل يشكل تعميمه التحدي الأبرز للشعوب التي تعاند السقوط في مهب الهامشية والانحطاط التاريخي، وبين المدنية التي تحيل إلى المسار الذي تنهجه الجماعات التاريخية الحية في سعيها الحثيث للوصول إلى هذه المكتسبات الحضارية الكونية. وهي الطريق التي يتعذر تعميمها لأنها تعبر عن خصائص الجماعة وعبقريتها الخاصة وظروفها المحلية وتاريخيتها المتميزة وثقافتها ومنظومة قيمها وعقيدتها..

وفي غياب مثل هذا التمييز بين الحضارة والمدنية؛ بين المكتسب الحضاري الكوني، وبين الذات التي تبني الإستراتيجية التاريخية، يغدو التفريق مستحيلا بين التغريب وبين التجديد الحضاري الحقيقي المطابق للشروط والمحددات الثقافية والقيمية لأمة من الأمم.

فبينما يعبر مفهوم الحضارة عن المكتسب الإنساني الشامل الذي يمكن تعميمه على جميع الثقافات، فإن مفهوم المدنية يعبر عن هوية الجماعة الثقافية كمصدر لمجمل المبادئ العقلية والمادية وشبكات التواصل التي تقوم عليها الجماعات وتتجدد. وتبعا لذلك، فمن مفهوم المدنية يجري اشتقاق مفهوم الثقافة المحلية، ومن استيعاب وفهم منطق فاعلية ثقافة من الثقافات يمكن أن نرصد طبيعة ووجهة حركة تشكل الجماعة المعبرة عنها.

فالحضارة، بهذا المعنى، حركة عالمية تتجاوز المدنيات وتتقدم من خلال المساهمات المختلفة التي تنجزها المدنية. والمدنية هي حاصل تفاعل المكتسبات الحضارية العالمية والثقافة المحلية بما تتميز به من منظومة قيم ورموز وتوجهات وخبرة تاريخية وتراث حضاري خاص.

ولما تطابقت المدنية الغربية في العصر الحديث، أو كادت أن تتطابق مع الحضارة المعاصرة السائدة، وأثارت داخل كل جماعة تنازعا بين النزوع إلى الحداثة ومطابقة بنياتها الخاصة وبنيات المجتمعات المركزية المبدعة للحضارة، وبين النزوع إلى المدنية مع ما يتطلبه ذلك من الاحتفاظ بالذاتية وتطوير الثقافة المحلية، فقد أصبح التمييز ضروريا بين الحضارة والمدنية، بين المكتسب الحضاري العالمي، والذات “المدنية” التي تتبنى استراتيجية الانخراط الفعال في جدل مع الحضارة، ليتسنى التمييز بين استراتيجية التغريب والتقليد الآلي المستلب من جهة، وبين التجديد الحضاري الأصيل والراسخ من جهة أخرى.

إن تجديد مدنية من المدنيات لا يعني تحويلها إلى نسخة مماثلة للثقافة الغربية، بقدر ما يعني مراجعتها لذاتها، وإعادة تنظيم مفاهيمها وقيمها حول أهداف ووظائف جديدة نابعة من حاجات المواجهة وضرورتها. وتأسيسا على ذلك يمكن أن نستنتج أن أزمة الحداثة في المجتمعات العربية الإسلامية الراهنة ما هي إلا انعكاس لصراع موضوعه محاولة السيطرة على “الحضارة”، بقدر ما تشكل هذه السيطرة ميدانا لتفتح المدنيات وتطور الثقافات المتنافسة وازدهارها.

وبصيغة أخرى، ما كانت الحداثة تمثل روح الحضارة الجديدة والثقافة المنسجمة معها، وكانت كل ثقافة تنسجم مع الحضارة التي صدرت عنها، ولما كانت الحضارة الحديثة قد قامت على أنقاض الحضارة التي سبقتها، فقد كان من الطبيعي أن تؤسس لثقافة تنبثق عنها  وتنسجم معها.

وتبعا لذلك، فقد تبلورت في العصر الحديث ثقافة جديدة تتسق مع الحضارة الجديدة بعد أن حلت محل الثقافة السابقة.. لتغدو الحداثة هي روح هذه الحضارة وهذه الثقافة. فإذا ما سادت الحضارة الجديدة وترسخت الثقافة المنسجمة معها، فإن أولئك الذين كانوا في الماضي أصحاب حضارة أخرى تلاشت أو آلت إلى التلاشي، تظل في أعماق أرواحهم بقايا الثقافة المنسجمة معها أو بقايا معالمها الثقافية البارزة.

إن أمة هذا حالها، ما أن تقف في مهب حضارة وثقافة جديدتين حتى تُبتلى حكما بالتناقض والتوتر والتضاد، نظرا لتأثر نمط الحياة فيها بمتطلبات الحضارة الجديدة ومعطياتها رغم أن الأرواح والنفوس تظل متمسكة بتصورات وقيم تعد، على طرف نقيض، ولو ظاهريا، مع القيم والتصورات المنسجمة مع الحضارة الجديدة. ومن هنا فإن تعارض الحضارة الحديثة وثقافتنا التقليدية، يعد من أهم أسباب الأزمة التي نعيشها في عقولنا وحياتنا.. ولن يتأتى تجاوز هذه الحالة إلا من خلال الانخراط التاريخي الفعال والمبدع في حضارة العصر..

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *