التّحدث على طاولة الطعام أفضل استثمار في قدرات الصغار

الرئيسية » تربية وتكوين » التّحدث على طاولة الطعام أفضل استثمار في قدرات الصغار

يعتبر الطعام بمثابة الوقود لأجساد الصغار، لما يمنحه لهم من عناصر غذائية تساعدهم على النمو الجسماني، وكذلك الحوار الذي تدور أطرافه على طاولة الطعام، فهو أيضا يشبه الغذاء الذي يساعدهم على تطوير مهاراتهم المعرفية، ويحسن من حالتهم العاطفية والنفسية، وحين تتحاور الأسرة وتتبادل أطراف الحديث بينها، فإنها تتيح لأطفالها الفرصة للتعبير عن أنفسهم وطرح أفكارهم بحرية، وعندما يتم الإصغاء لهم بانتباه تنشأ بينهم وبين المحيطين بهم رابطة عاطفية قوية، تجعلهم يشعرون بأن الجميع كيان واحد.

ومن المعروف علميا أن الصغار يتحلون بقدرة على التعلم الضمني أي اللاشعوري، لا يتمتع بها الكبار، فهم يستمعون بانتباه إلى المتحدثين ويقتدون بهم، وهذا الأمر يدربهم على المكان الذي يقبعون فيه والزمان الذي يعيشونه، دون قدرة على استرجاع ما جرى أو الهروب بأذهانهم إلى المستقبل. ويظل حالهم كذلك حتى سن الثالثة أو الرابعة؛ حين يشرعون في امتلاك القدرة على تخيل أحداث مستقبلية، وبمقارنة هذه الميزة بمعاناة البالغين من تشتت الذهن، يستخلص الخبراء أن لأطفال في مراحل عمرهم المبكرة لديهم قدرة أكبر على الانتباه والتركيز لفترات أطول، ما يساعدهم على تطوير وتحسين بعض المهارات الأساسية، مثل توسيع حصيلة مفرداتهم، سواء في اللغة أو تحفيز على استيعاب قدر أكبر من المعلومات الجديدة.

وينصح الخبراء الآباء بالتحدث مع أطفالهم قدر المستطاع لمعرفة مشاغلهم وهمومهم وسؤالهم عما حدث لهم خلال اليوم، لأن ذلك يساعدهم على بناء علاقات طيبة معهم، ولكن الخبراء يعتقدون أنه سيكون أيضا من الجيد للأسرة الاستفادة من الوقت الذي تقضيه على المائدة بعد الانتهاء من الطعام. ويركز الخبراء في هذا الشأن على أهمية الجانب الاجتماعي لوجبة الطعام أكثر من اهتمامهم بنوعية الأطباق الدسمة والمغذية التي تتناولها الأسرة، ولهذا تعد جلسات الطعام التي يتخللها الضحك والأحاديث الودية المرحة مهمة على صعيد مساعدة الأطفال على التعلم، على عكس اعتقاد البعض من الآباء أنه من الأفضل تناول الطعام في صمت مطبق.

ويبدأ الدافع الغريزي والذاتي للتعلم في مرحلة مبكرة للغاية، وثمة أمور بوسع أولياء الأمور القيام بها، لتعزيز الدوافع الذاتية الغريزية المُحركة لسلوك الطفل، من قبيل دفعهم للمشاركة في الحوار وترك الفرصة لهم لإبداء آرائهم، ويعطي ذلك لعقولهم النشطة فرصة للنمو والتطور بشكل أفضل.

وفي هذا السياق، أكد فريق من الباحثين في مدينة بوسطن الأميركية، في دراسة لهم قادتها عالمة الأعصاب والأخصائية في أمراض الكلام واللغة ريتشيل روميو، أنه يمكن أن يكون للتفاعل بين الكبار والصغار -من خلال الحديث والحوار- فوائد على نمو الدماغ، وذلك بشكل واضح. وسجل فريق البحث محادثات جرت بين الوالدين والأطفال. وأولوا اهتمامهم إلى عدد المفردات، التي سمعها الصغار خلال هذه المحادثات. وتبين أن الأطفال الذين شاركوا في عدد أكبر من المحادثات، أدوا المهام المتعلقة بفهم اللغة على نحو أفضل.

بجانب ذلك، كان لدى هؤلاء الأطفال روابط أقوى بين جزئيات المادة البيضاء الموجودة في الدماغ، وذلك في منطقتين رئيستين مهمتين لأداء الوظائف المرتبطة باللغة، وهو أمر قد يؤدي إلى تسريع عمليات معالجة المعلومات في هاتين المنطقتين. ويُظهر ذلك -حسبما أكدت الباحثة روميو- أن عدد مرات التحدث تسهم في تحسين القدرات الدماغية. وتوضح ذلك بالقول “وجدنا أن هناك صلة بين التحدث لمرات أكثر، ووجود روابط أقوى على هذا المضمار، ما يرتبط بدوره بالمهارات اللغوية التي يتمتع بها الأطفال”.

وبما أن الأطفال يلتقون مع آبائهم وإخوتهم مرارا وتكرارا على مائدة الطعام. فمن الحتمي أن يكون لهذا تأثير كبير على نمو قدراتهم المعرفية والفكرية، فإذا كان الآباء يسمحون لأطفالهم بالانخراط في “محادثة جيدة”، وهي تلك التي يكون فيها الحديث متبادلا، أي أن يكون في صورة أخذ ورد بالتناوب بين أطرافه، ما يتطلب من كل منهم، أن ينصت لما يُقال إليه وأن يرد عليه كذلك، فمن شأن ذلك أن يساعد أطفالهم على تنمية مهارات الاتصال بطريقة واضحة ومباشرة، وهي من أولويات الشركات والمؤسسات أثناء عمليات التوظيف. وهو ما ينطبق على مجالات متعددة مثل الاستشارات والتسويق، أو غيرهما من الوظائف التي تحتاج إلى مهارات التحدث بكل ثقة في النفس.

وتصف هيرش باسيك، أستاذة تنمية الطفولة المبكرة في جامعة تمبل الأميركية وزميلتها -التي تتعاون معها منذ أمد بعيد- روبرتا غولينكوف ذلك بـ”الدويتو الكلامي”، لأن أي شخص لا يستطيع “أن يشدو بالحديث بمفرده”.

وقد أظهرت دراسة أخرى أن انقطاع المحادثة بين أحد الوالدين وبين الطفل، بفعل تلقيه اتصالا هاتفيا مثلا، يحول دون أن يتعلم الصغير المفردات الجديدة التي ألقيت على مسامعه حينما حادثه. لكن من المفارقة أن هذا الموضوع مثل محور جدل لعقود طويلة في المجتمعات العربية التي تضع ضوابط سلوكية لعملية تناول الطعام ويسود في معظمها تقدير كبير للصمت في مقولة “لا كلام ولا سلام على طعام”، رغم أن الحديث أثناء جلسة الطعام وليس خلال التهام الطعام، يعد أثمن استثمار في الحياة الأسرية، وفي القدرات الفكرية للأطفال.

واعتبرت دار الإفتاء المصرية في بيان لها أن الكلام على الطعام مباح، مستدلة في ذلك بآراء بعض العلماء الذين أكدوا استحباب الحديث على الطعام تأنيسًا للآكلين. غير أن خبراء في علوم الأسرة والاجتماع يجمعون على أن الجلوس في صمت أثناء تناول الطعام هو أمر أسوأ بالنسبة للأطفال من عدم الجلوس معهم لتناول الوجبات العائلية على الإطلاق.

ودعت حملة “كلمات من أجل الحياة” التي أطلقها الصندوق الوطني للتعليم في بريطانيا العائلات إلى تشجيع مهارات الحديث والاستماع لدى أطفالهم من خلال “اتخاذ خطوات بسيطة مثل التحدث معا أثناء تناول الطعام”. ورغم ذلك فإن الدراسات العلمية أظهرت أن بعض الآباء والأمهات، لا يتحدثون كثيرا مع أطفالهم، وهو ما قد يُخلّف آثارا سلبية طويلة الأمد على أطفالهم، تبدو واضحة للعيان كذلك في التكوين التشريحي لأدمغتهم.

ومن بين هذه الدراسات، واحدة أجراها الباحثان تود ريزلي وبيتي هارت في منتصف تسعينات القرن الماضي، وخَلُصَت إلى نتائج مثيرة للقلق، كشفت عن وجود فارق كبير في التحصيل اللغوي لدى الأطفال، تبعا لاختلاف المستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسر التي ينتمون إليها.

وإذا تم التسليم بوجود هذه “الفجوة اللغوية” ستلوح بعض القضايا الإشكالية، في ضوء ما هو معروف من أن اللغة تشكل أحد أكثر العوامل التي تُنبئ بشكل الحياة، التي سيعيشها الطفل، بدءا من طبيعة أدائه في مراحل التعليم الابتدائية والثانوية وصولا إلى الجامعة، وبعد ذلك خلال مسيرته المهنية. فالمرء يحتاج للغة لكي يتعلم القراءة ومبادئ الحساب، أو حتى لكي يتحدث عن ذكرياته.

صحيفة العرب

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *