التحكيم التجاري والعولمة الاقتصادية (2)

الرئيسية » إبداع وتنمية » التحكيم التجاري والعولمة الاقتصادية (2)

المبحث الثاني: التحكيم التجاري في ظل النظام الاقتصادي العالمي الجديد

لقد ترتب على ممارسة الدولة للنشاط التجاري مجموعة من المشاكل القانونية وهي تتعلق بصفة الدولة أو الشخص المعنوي العام كطرف في الاتفاق ومشاكل قانونية موضوعية وهي التي تتعلق بطائفة تسيير مرفق عام، وإشباع حاجات ذات نفع عام، ومع إنشاء المنظمة العالمية للتجارة أصبحت عقود الدولة تمثل جزءا أساسيا من الاقتصاد العالمي الأمر الذي أعطى لهذه العقود منظورا جديدا حيث أرست المنظمة نظاما جديدا لتسوية المنازعات التجارية بين الدول أعطت فيه للتحكيم القائم على اتفاق الأطراف أولوية مطلقة عن سائر وسائل تسوية المنازعات الأخرى.

 من جهة أخرى يعد إن تحقيق الاستثمار للأهداف المتوخاة منه رهين بمدى توفر الحماية الموضوعية والإجرائية، فالمستثمر قبل كل شيء يبحث عن الربح، ويبتعد على الخسارة، لهذا فهو يتطلع إلى مناخ استثماري يشجعه ويحمي أمواله، من هذا المنطلق سعت جل الدول إلى العمل على توفير مناخ استثماري ملائم لتشجيع الاستثمارات وحمايتها، انصبت في الأساس على انتهاج سياسة تحفيزية وتشجيعية وحمائية، وكانت قوانين الاستثمار الوسيلة لذلك، والسياسة التشجيعية التي انتهجها قوانين الاستثمار اشتملت على مجموعة من المحفزات كان أساسها المحفزات الجبائية والجمركية أي كرست المحفزات في بداية الأمر على المنظور المالي الذي يسعى من وراء المستثمر إلى تحقيق الربح، إضافة إلى ضمان تحويل رؤوس الأموال والعائدات التي تحققها المشاريع الاستثمارية من التأميم أو المصادرة، إضافة إلى إنشاء أجهزة إدارية تعني وتسهر على تقديم المساعدة والخدمات للمستثمرين، وجملة هذه العوامل لم تعد في العصر إلى الحالي الوحيد لجذب الاستثمار، بل ظهرت عوامل أخرى تتضافر مهما، وهي لا تقل شأنا عنها إلا وهي وجود ضمانات قضائية تعمل على تسوية المنازعات الاستثمارية.[1]

المطلب الأول: التحكيم التجاري في إطار الاتفاقيات الاقتصادية

يتميز التحكيم بعدة مميزات من قبيل السرعة في البث، حيادية المحكمين، المرونة في الإجراءات، إضافة لمميزات عديدة أخرى[2]، وبالتالي تظهر سمة أساسية تشكل خصوصية آلية التحكيم في إطار الاتفاقيات الاقتصادية للمغرب، فأغلب هاته الاتفاقيات تزاوج بين نوعين أساسيين من التحكيم هما: التحكيم الحر والتحكيم المؤسسي مع تنصيص بعض منها على مفاهيم جديدة -طبعت المسار الإجرائي والموضوعي للعملية التحكيمية – أبرزها الشفافية[3]. وبالتالي كان لزاما منا الحديث عن مجموعة من الأسس المتعلقة بالتحكيم خصوصا مسألة الطابع الثنائي للتحكيم في الاتفاقيات الاقتصادية للمغرب لأن هذه الأخيرة هي التي تؤطر مجال العولمة الاقتصادية (الفقرة الأولى) على أن يتم الحديث من خلال (الفقرة الثانية) عن خصوصيات التنظيم الإجرائي والموضوعي للتحكيم في هذه الاتفاقيات.

الفقرة الأولى: ثنائية التحكيم في الاتفاقيات الاقتصادية للمغرب.

يختلف التحكيم الخاص عن التحكيم المؤسســـي من حيث النشأة، فالأول كان الأسبق في الظهور، بل لقد كان النوع الوحيد المعروف في الحضارات القديمة والمنازعات القبلية قبل ظهور الدولة بالمفهوم الحديث. ويتميز التحكيم الخاص عن التحكيم المؤسسي في أن أطراف المنازعة هم من يتولون اختيار المحكمين وتحديد الإجراءات والقواعد المطبقة في عملية التحكيم، في حين أن التحكيم المؤسسي تعهد أمور اختيار المحكمين وقواعد الإجراءات والجوهر على هيئات منتظمة أو مراكز دائمة[4].

وعليه يمكن القول أن التحكيم الخاص يتميز عن التحكيم المؤسسي بكونه أكثر وفاء لمبدأ أسرية التحكيم وبالتالي فهو يلائم العلاقات الاقتصادية الخاصة الدولية التي تتطلب قدرا من السرية خاصة في مجال العقود الدولية[5]. سوف نحاول الوقوف عند كل نوع بتفصيل مع إبراز دورهما في الاتفاقيات الاقتصادية بالمغرب من خلال مايلي.

أولا: التحكيم الخاص.

لم تخرج الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمها المغرب عن التوجه القاضي يجعل التحكيم الخاص نهجا أساسيا لفض المنازعات الطارئة بسبب هاته الاتفاقيات. وفي مختلف أنواعها سواء كانت لتشجيع وحماية الاستثمارات، أو اتفاقيات شراكة، أو تبادل حر.

1. التحكيم الخاص في منازعات الاستثمار:

ليتم فض النزاع في إطار اتفاق حماية وتشجيع الاستثمار ينبغي توفر مجموعة من الشروط:

– أن يتعلق الأمر بنزاع حول تفسير أو تطبيق الاتفاق.

– تعذر حل النزاع بالوسائل الدبلوماسية[6].

– استيفاء مدة ستة أشهر منذ بداية المفاوضات أو المشاورات من دون الحسم في جوهر النزاع[7].

– اللجوء إلى التحكيم بناء على طلب من إحدى الدول المتعاقدة.

وبتحقق الشروط السابقة ينتقل أطراف النزاع إلى اختيار محكميهم، بحيث يعين كل طرف محكما، ويعين المحكمان رئيس الهيئة من بين رعايا دولة ثالثة. وفي حالة عدم احترام الأطراف للآجال المحددة في الاتفاق يدعى رئيس محكمة العدل الدولية للقيام بالتعيينات اللازمة إلا أن يكون من رعايا إحدى الدول المتعاقدة، إذ ذاك يتم اللجوء إلى نائبه أو العضو الأكبر سنا من رعايا دولة ثالثة.

وبخصوص القانون الواجب التطبيق في إطار التحكيم الحر، تميز اتفاقيات المغرب الاقتصادية بين صنفين:

* القانون الواجب التطبيق على الموضوع: تتخذ هيئة التحكيم قراراتها على أساس مقتضيات اتفاق تشجيع وحماية الاستثمارات وكذا قواعد ومبادئ القانون الدولي المتعارف عليها.

* القانون الواجب التطبيق على الإجراءات: تحدد المحكمة التحكيمية مسطرتها الخاصة. وتتخذ قراراتها بأغلبية الأصوات، وتكون هذه القرارات نهائية وقابلة للتطبيق بقوة القانون من طرف الأطراف. ويتحمل كل جانب مصاريف حكمه وكذا مصاريف المحكم المعين من قبله، أما باقي المصاريف بما فيها تعويضات رئيس الهيئة فتقسم مناصفة بين الطرفين.

2. في اتفاقيات الشراكة:

ومثال ذلك اتفاقية الشراكة المغربية الأوروبية التي وضعت إطار مؤسساتيا متكاملا[8] لتدبير مقتضيات الاتفاق، وعلى الخصوص في مسائل تسوية المنازعات المرتبطة بتفسير وتطبيق الاتفاقية[9]. بحيث يعرض هذا النزاع على مجلس الشراكة أو لجنة الشراكة للحسم فيه، وفي حالة عدم التوصل لفض النزاع في إطار الجهازين المذكورين، يتم اللجوء إلى مسطرة التحكيم الحر، هاته المسطرة لا تختلف عما سبق ورأيناه في إطار اتفاقيات تشجيع وحماية الاستثمارات، بحيث يقوم من له مصلحة بإبلاغ الطرف الآخر بقيامه بتعيين محكمه وعلى الطرف الثاني المبادرة هو الآخر بتعيين محكمه خلال أجل شهرين. وتنبغي الإشارة هنا إلى ان المجموعة الاوروبية ودولها الأعضاء تعتبر طرفا واحدا في الخلاف. أما المحكم الثالث فيعينه مجلس الشراكة وإن كان البعض يشكك في جدوى تدخل هذا المجلس في مسطرة التحكيم وهو الذي فشل في تقريب وجهات نظر الأطراف إلى حل توافقي تفاوضي حول النزاع[10].

بعد تعيين الهيئة التحكيمية تباشر هذه الأخير النظر في موضوع النزاع الذي تبث فيه بالأغلبية. غير أن عمل الهيئة التحكيمية هنا يثير مجموعة من الملاحظات:

* غياب التنصيص على تحديد القانون الواجب التطبيق سواء على إجراءات التحكيم أو على موضوع النزاع.

* غياب تحديد آجال النظر في النزاع من طرف الهيئة التحكيمية. فظاهر الفقرة 4 من المادة 86 يوحي بأن التحكيم هنا تحكيم مطلق من حيث الزمن، وهذا يفرغ آلية التحكيم من محتواها القائم أساسا على السرعة في البث في جوهر النزاع لاسيما وأن اتفاقية الشراكة تفرض تسوية النزاع بداية أما الأجهزة التنفيذية كمجلس الشراكة أو لجنتها.

* غياب الإشارة إلى مكان إجراء التحكيم، فهل سيكون المكان بروكسيل عاصمة الاتحاد الأوروبي؟ أم الرباط عاصمة المغرب؟ أم عاصمة إحدى الدول الخمسة والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؟ أم يكون مكانه في دولة محايدة؟

* إغفال التطرق لمسألة مصاريف التحكيم وأتعاب الهيئة التحكيمية.

* تضخم أجهزة فض المنازعات في إطار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فالنزاع عليه أن يقطع وجوبا عدة مراحل قبل انطلاق التحكيم، حيث يمكن عرضه على لجنة الشراكة أو مجموعات العمل أو مجلس الشراكة أو كلها معا قبل عرضه على التحكيم.

وخلاصة القول أن الإطار العام للتحكيم الحر في ظل اتفاقية الشراكة المغربية الأوربية لا يرقى لقيمة الاتفاقية ذاتها وبالتالي يشكل عائقا أمام مباشرة آلية التحكيم كوسيلة لفض المنازعات نصت عليها اتفاقية الشراكة[11]، لذا يجب التفكير في إصلاح المقتضيات المتعلقة بالتحكيم وذلك باستلهام بعض القواعد المنصوص عليها في اتفاقيات أخرى[12]، أو إخضاع المنازعات للتحكيم المؤسسي عوض التحكيم الحر.

3. اتفاقيات التبادل الحر:

أطلق اتفاق التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية على الهيئة التحكيمية اسم “لجنة التحكيم” دلالة على طابعها الحر، وتتكون هذه اللجنة من ثلاثة أعضاء ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك[13] بأن يكون العدد أكثر من ثلاثة شرط أن يكون فرديا، ولكن يطرح التساؤل هنا حول مدى إمكانية فض النزاع أمام هيئة مشكلة من محكم وحيد، خاصة مع سكوت الاتفاق عن بيان ذلك. وبعد أن يعين الأطراف محكميهم بالتشاور فيما بينهما داخل أجل 30 يوما من إحالة النزاع على التحكيم، يتوافق الأطراف على اختيار رئيس اللجنة.

إذا ما اعترض أحد الأطراف أو كلاهما صعوبات بصدد تعيين أحد المحكمين أو رئيس اللجنة فإن الاتفاق قد أوجب وضع قائمة احتياطية تضم أسماء ثمانية أشخاص مستعدين للعمل كأعضاء في لجنة التحكيم، وبالتالي يتم اختيار العضو أو الأعضاء للمناصب الشاغرة عن طريق القرعة[14].

أما بخصوص القواعد المسطرية المطبقة على التحكيم، فإن اتفاق التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية منح للأطراف إمكانيتين على سبيل المفاضلة الأولى اعمال القواعد المسطرية النموذجية الموضوعة مسبقا من قبل أطراف الاتفاق[15]، والثانية اعتماد لجنة التحكيم لقواعد إضافية مختلفة عن القواعد آنفة الذكر شريطة التشاور مع طرفي النزاع[16]. والطرح الثاني – في اعتقادي- هو الأمثل لأنه يتماشى مع جوهر التحكيم الحر المنعقد لحسم نزاع الحالات الخاصة، فالقواعد المسطرية النموذجية لن تصلح بالضرورة للتطبيق على جميع النزاعات وبالتالي قيام المحكمين باختيار القواعد الملائمة للنزاع المعروض أمامهم هو الصواب.

بعد أن تنطلق مسطرة التحكيم وتتخذ اللجنة كافة الإجراءات الرامية لفض النزاع، تقدم للأطراف تقريرا أوليا وذلك خلال ظرف 180 يوما الموالية لتعيين رئيسها، وينبغي أن يتضمن هذا التقرير الحقائق التي توصلت إليها[17] انطلاقا من أحكام الاتفاقية ومرافعات الأطراف وحججهم[18]. هذا وتلزم اللجنة بحسم النزاع نهائيا وذلك بواسطة تقرير نهائي يصدر داخل أجل 45 يوما الموالية لصدور التقرير الأولي، إلا إذا اتفق الأطراف على مدة أقل أو تزيد عن ذلك.

أما اتفاق التبادل الحر مع الجمعية الأوربية للتبادل الحر فلم يميز بين قرار تمهيدي وآخر نهائي، بل قيد الهيئة بإصدار مقرر تحكيمي داخل أجل الستة أشهر الموالية لتعيين رئيس الهيئة التحكيمية. وفي حالة تعذر الالتزام بهذه المهلة، يمكن للمحكمة التحكيمية أن تطلب من اللجنة المشتركة تمديد المهمة التحكيمية لستة أشهر أخرى[19]، والواقع أنها مدة طويلة جدا ولا تراعي الحالات التي يكون موضوع النزاع مواد أو سلع قابلة للتلف.

من خلال ما سبق يتبين أن التحكيم الخاص يبقى أفضل الاختيارات التي تتوجه إليها الدول عوضا عن التحكيم المؤسسي الذي يفضل المستثمرون اللجوء إليه بالنظر لاختلال التوازن مع الدول المضيفة للاستثمار. إذ يمكن أن نخلص لنتيجة مفادها، التحكيم الحر تحكيم الدولة والتحكيم المؤسسي تحكيم المستثمر الأجنبي.

إلا أننا نلاحظ أن المغرب ورغم الكم الكبير من الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمها، ورغم لتنصيص الصريح على اللجوء في إطارها إلى فض المنازعات عبر التحكيم الحر، نلاحظ أن إعمال هذا المقتضى جاء نادرا، فجميع الاتفاقيات المذكورة فرضت بداية فض منازعاتها بالتفاوض في إطار اللجنة المشتركة أو لجنة الشراكة وبالتالي تبقى مسطرة التحكيم احتياطية، لا يتم إعمالها إلا في حالة فشل الحلول الحبية[20].

والواقع أن المغرب وعلى امتداد عقود كان دائما يفضل حل خلافاته سواء الاقتصادية أو السياسية بالسبل الديبلوماسية وهو حل غير مجد دائما نظرا لكونه دفاعيا أكثر منه هجومي، ولا يؤازره ثقل قوي لمركز المغرب دوليا، وبالتالي فسبيل التفاوض مع وجود اختلال بين قيمة وقوة أطراف المفاوضة يستتبع بالضرورة تنازل الطرف الضعيف وهيمنة الطرف القوي. وفي ذلك إضاعة لفرض إقرار التوازن بين الأطراف عبر عرض المنازعة على جهاز محايد ولا منتمي كالهيئة التحكيمية.

ثانيا : التحكيم النظامي

إلى جانب التحكيم الحر الذي تطرقنا إليه في الفقرة السابقة، ينتظم نوع آخر من التحكيم يعتبر الأكثر شيوعا[21] في مجال منازعات التجارة الدولية، وهو التحكيم النظامي أو التحكيم المؤسسي الذي يعهد به إلى هيئة أو منظمة أو مركز دائم[22] وذلك بحسب لوائح وإجراءات هاته المراكز أو الهيئات[23]. كما يعتبر من قبيل التحكيم المؤسسي المراكز الخاصة بالتحكيم سواء في نقابات المحامين أو مكاتبهم أو في إطار غرف التجارة والصناعة المحلية والدولية[24]. ويعتبر التحكيم نظاميا متى جرى تحت لواء منظمة لم تكتف بوضع لوائحها وقواعدها التنظيمية تحت تصرف أطراف النزاع، بل واحتفظت لنفسها باختصاص معين في تطبيق لائحة التحكيم المذكور[25]. ويمكن الجزم بأن التحكيم النظامي أصبح قضاء التجارة الدولية بامتياز وذلك بالنظر إلى المزايا الكثيرة التي يوفرها للمحتكمين[26] ومنها:

* توفر مراكزه على لوائح معدة مسبقة خاصة بالإجراءات التي تسري على المسطرة التحكيمية. وهي عادة ما تكون بسيطة وسريعة وتضمن التكافؤ بين الأطراف.

* توفر هيآت التحكيم على محكمين متخصصين في مختلف أنواع المنازعات.

* انعقاد التحكيم في مقر الهيأة. وبالتالي الحسم في مسألة مكان التحكيم وما يصاحب ذلك من إشكاليات اختصاص قضاء موقع التحكيم بإجراءات الطعن والتنفيذ والإجراءات الاستعجالية.

* تقديم مراكز التحكيم للخدمات الإدارية المرافقة للعملية التحكيمية كالترجمة وخدمات السكرتارية وحفظ الملفات والبيانات…

* توفير المساعدة في تنفيذ الحكم التحكيمي.

ويعتبر التحكيم النظامي تحكيما لمنازعات الاستثمار بامتياز، فبالرجوع لمختلف اتفاقيات تشجيع وحماية الاستثمارات نجدها لا تخلو من التنصيص على تحكيم مركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار كهيئة مخولة للنظر في المنازعات القائمة بين المستثمر الأجنبي ودولة الاستثمار[27].

والملاحظة الأساسية التي ننطلق منها هي كون اللجوء إلى التحكيم المؤسسي يبقى رهينا بتعذر تسوية منازعات الاستثمار عبر السبل الدبلوماسية، وبالتالي تبقى آلية التحكيم بوجه عام والتحكيم المؤسسي خصوصا، الملاذ الأخير الذي يزج بالنزاع فيه من أجل التوصل إلى حل نهائي. فبعد انصرام أجل ستة أشهر منذ بدء محاولات التسوية بالتراضي يمكن للمستثمر أن يعرض نزاعه -اختياريا- إما على القضاء الوطني للدولة المضيفة للاستثمار وإما على تحكيم المركز الدولي لتسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمار.

الفقرة الثانية: الإجراءات المتعلقة بالتحكيم في الاتفاقيات الاقتصادية

من خلال هذه الفقرة سنعمل  على رصد مظاهر التنظيم الذي حظي بها التحكيم في إطار الاتفاقيات الاقتصادية لا من حيث الجانب الإجرائي (أولا) أو من حيث الجانب الموضوعي (ثانيا).

أولا: القواعد الإجرائية المتعلقة بالتحكيم في الاتفاقيات الاقتصادية

1. تقديم المطالبة التحكيمية وشروط قبولها:

تقديم المطالبة التحكيمية ما هو في واقع الأمر سوى تحريك لخصومة التحكيم وذلك بواسطة إجراءات يقوم بها (المدعي) موضحا فيها رغبته في اللجوء إلى التحكيم لفض النزاع الرابط بينه وبين المدعى عليه.

وبالرجوع إلى اتفاقية حماية وتشجيع الاستثمار المبرمة بين المغرب وايطاليا، نجد الفقرة الثانية من المادة الثامنة ترهـنُ تحريك الخصومة التحكيمية بشرطين أساسيين، أولهما فشل محاولة التسوية الحبية، وثانيهما انصرام اجل ستة أشهر دون تحقيق هذه التسوية، وهو نفس التوجه الذي سارت عليه أغلب اتفاقيات تشجيع وحماية الاستثمار التي أبرمتها بلادنا سواء مع الولايات المتحدة أو فرنسا أو اليونان بحيث كسرت جميعها ضرورة تحقق الشرطين السابقين من أجل تحريك المطالبة التحكيمية. والملاحظة الأساسية التي نسجلها هنا هي تنصيص اتفاقيات تشجيع وحماية الاستثمار على أن المستثمر الأجنبي هو الوحيد الذي له الخيرة ما بين اللجوء إلى التحكيم من عدمه، في حين لم تتم الإشارة إلى تدخل الدولة المضيفة للاستثمار في تحريك الخصومة التحكيمية، وهذا الشيء وإن كان ظاهره يوحي بخلق توازن في معايير القوى ما بين المستثمر الأجنبي والدولة المضيفة للاستثمار، إلا أنه في واقع الأمر يعطي للمستثمر صلاحيات خطيرة –  يستأثر بها لوحده من أجل اختيار جهة فض النزاع التي عادة ما تكون غير ملائمة لرغبة دولة الاستثمار، هذه الأخيرة التي تتخذا موقفا دفاعيا كلاسيكيا هو إثارة اختصاص الهيئة التحكيمية، كما نلاحظ غموض هذه الاتفاقيات حول اجل الستة أشهر المخصصة للتسوية الحبية للنزاع، فأغلب الاتفاقات لم تشر إلى تاريخ بدء احتساب هذه المدة ولا إلى موجبات وقف سريان هذا الأجل، مما يجعل هذه المدة مجرد تمطيط لزمن النزاع وتأخير لسلوك مسطرة التحكيم. وللخروج من هذا الإشكال نؤيد التوجه الذي سار عليه اتفاق تشجيع وحماية الاستثمار بين المغرب وجمهورية اليونان الذي بين إلى حد ما كيفية احتساب اجل الستة أشهر، حيث تنص الفقرة الثانية من المادة التاسعة على أن تسوية خلافات الاستثمار تتم وجوبا داخل أجل ستة أشهر تبتدئ من تاريخ الإخطار المكتوب.

أما اتفاقية الشراكة المغربية الأوروبية فلم تخرج عن التوجه السالف ذكره، بحيث نصت على أن تحريك خصومة التحكيم يتم بعد فشل مجلس الشراكة في تسوية النزاع بواسطة قرار، حيث تنطلق المطالبة التحكيمية بمجرد قيام أحد الأطراف بتعيين حكمه، أما اتفاق التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية فقد استفاض في بيان المسائل المتعلقة بتقديم المطالبة التحكيمية. فقد نصت المادة 10-15 في فقرتها الأولى على أن أي طرف من أطراف الاتفاق له أن يباشر إجراءات التحكيم متى تبين له أن الوسائل الرضائية المستخدمة لا تسعف في حل النزاع. وهذا توجه يخالف تماما ما استقرت عليه أغلب اتفاقات تشجيع وحماية الاستثمار التي جعلت من المستثمر الأجنبي المحرك الوحيد لمسطرة التحكيم، على أن اتفاق التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية وضع مجموعة من الشروط لقبول المطالبة التحكيمية:

* الشرط الأول: أن يكون أساس المطالبة التحكيمية هو انتهاك المدعى عليه لأحد الالتزامات المنصوص عليها في الفرع (ألف: A) من الاتفاق[28]، أو انتهك ترخيصا للاستثمار، أو اتفاق استثمار، أو أن يكون المدعي قد تحمل خسارة أو ضررا بسبب الانتهاكات المشار إليها أعلاه أو نتيجة لها.

* الشرط الثاني: ضرورة إخطار المدعي للمدعى عليه باعتزامه تقديم مطالبة التحكيم تسعين يوما على الأقل قبل تحريك الخصومة التحكيمية وذلك بواسطة إخطار كتابي.

* الشرط الثالث: أن يتضمن الإخطار الكتابي مجموعة من الشكليات من قبيل، اسم وعنوان المدعي وما إذا كان الطلب مقدما بصفة أصلية أو نيابة عن مقاولة ما مع الإشارة لإسمها وعنوانها ومكان تأسيسها، إضافة لبيان أوجه الانتهاك الذي قام به المدعى عليه والأساس القانوني والحقائق التي تستند إليها المطالبة، والإنصاف المطلوب المقابل لحجم الضرر.

وتصبح المطالبة التحكيمية مقدمة بشكل صحيح مباشرة بعد إرسال خطاب النوايا (الإخطار الكتابي) وكذا بتسلم هذا الإخطار إما من طرف المدعى عليه في حالة التحكيم الحر وإما من طرف الأمين العام لمركز واشنطن أو أي مركز آخر وذلك في حالة أن اختار المدعي التحكيم المؤسسي[29]، ولتمام صحة المطالبة التحكيمية نصت الفقرة الأخيرة من المادة 10-15 على ضرورة تضمين الإخطار الكتابي باسم المحكم الذي اختاره المدعين إضافة إلى موافقة كتابية من المدعي يرخص بموجبها للأمين العام لمركز واشنطن (CIRDI) بتعيين الحكم المختار سابقا وذلك في الحالات التي يكون فيها التحكيم مؤسسيا.

وبالإضافة لما سبق ذكره، وضع اتفاق التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية أجلا لتحريك المطالبة التحكيمية وإلا سقط هذا الحق، وهذا الأجل حددته الفقرة الأولى من المادة 17.10 في ثلاث سنوات من تاريخ معرفة المدعي لأول مرة بالانتهاك أو الخسارة أو الضرر الذي لحقه. وهو توجه محمود بالنظر إلى مراعاة مصالح الطرفين معا والحفاظ على  استقرار المعاملات.

هذا كل ما يتعلق بتحريك الخصومة التحكيمية وشروط قبولها، فماذا عن سير هذه الخصومة.

2. مراحل الخصومة التحكيمية وفق الاتفاقيات الاقتصادية:

إن أول خطوة تقوم عليها عملية التحكيم هي اختيار كل طرف لمُحَـكمه، حيث إن العادة أن تتشكل الهيئة من ثلاثة حكام يعين المدعي الأول والمدعى عليه الثاني بينما يتم التوافق بين المحكَّمين المختارين على شخص المحكَّم الثالث والذي يكون أيضا رئيسا للهيئة.[30] والأصل في تشكيل الهيئة أن يكون وِتريا وهو ما أجمعت عليه جميع الاتفاقيات الاقتصادية التي كان المغرب طرفا فيها وكذا أغلب الاتفاقيات الدولية والإقليمية للتحكيم، بالإضافة إلى أغلب لوائح هيآت التحكيم المؤسسي.

وفي حالة ما إذا اعترض تعيين الهيئة التحكيمية صعوبات ما فإنه يتم اللجوء إلى شخص من الغير لتجاوز هذه الصعوبات. فبالرجوع للفقرة الرابعة من المادة 9 من اتفاق تشجيع وحماية الاستثمار المبرم بين المغرب وإيطاليا نجدها تحيل على رئيس محكمة العدل الدولية قصد إجراء التعيينات اللازمة وذلك شرط انصرام أجل شهرين على تقديم مطالبة التحكيم دون مبادرة المدعى عليه إلى تعيين مُحكمه. هذا في الوقت الذي اسند الاتفاق المبرم مع فرنسا الاختصاص في إجراء هذا التعيين إلى الأمين العام للأمم المتحدة. في حين أسند الاتفاق المبرم مع الولايات المتحدة الأمريكية هذا الاختصاص للأمين العام لمركز واشنطن لتسوية منازعات الاستثمار.

على العكس مما سبق ذكره نجد أن اتفاقية الشراكة المغربية الأوربية لم تبين مصير مسطرة التحكيم في الحالة التي لا يُـقْدِم فيها المدعى عليه على تعيين مُحكَّمِه داخل الأجل القانوني. غير أنه يمكن التوسع في تفسير الفقرة 4 من المادة 86 والقول بإسناد الاختصاص للقيام بهذه التعيينات إلى “مجلس الشراكة” اعتبارا إلى أنه هو من يقوم بتعيين المحكم الثالث في الأحوال العادية.

أما اتفاق التبادل الحر المبرم مع الولايات المتحدة الأمريكية فقد عالج هذه الإشكالية بشكل مستفيض، بل وبين بتدقيق المراحل التي تمر منها الخصومة التحكيمية مميزا في ذلك ما بين الخصومة المترتبة عن الاستثمار والخصومة المترتبة عن تفسير وتطبيق اتفاق التبادل الحر.

وتحيلنا المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية على مبدأ حرية الأطراف في تحديد مكان إجراء التحكيم شريطة التقيد بأحكام الفقرة 3 من المادة 15.10 من نفس الاتفاق والتي تحدد المحافل التي  يمكن عرض النزاع أمامها وكذا سند تقديم المطالبة التحكيمية. وفي الأحوال التي يفشل فيها الأطراف في التواصل إلى توافق حول مكان إجراء التحكيم، اسند الاتفاق الاختصاص في ذلك إلى الهيئة التحكيمية التي عليها أن تختار مكان التحكيم ضمن أراضي دولة طرف في اتفاقية نيويورك 1958 المتعلقة بالاعتراف وتنفيذ مقررات التحكيم الأجنبية[31].

يجوز للهيئة التحكيمية الاستماع لأي شخص ترى أن إفادته مهمة في استجلاء أي غموض يكتنف اتفاق التبادل الحر[32]. سواء كانت هذه الإفادة كتابة أو بطريقة شفوية. كما يمكن للهيئة التحكيمية قبول أية معلومات يقدمها شخص أو كيان ليس طرفا في المنازعة. وبالتالي فاتفاق التبادل الحر اسند صلاحيات غير تقليدية للمحكمين.

ومن المسائل الأولية التي تنظر فيها الهيئة التحكيمية قبل البث في الجوهر، الاعتراضات المقامة من طرف المدعى عليه والتي يحتج فيها بعدم صحة المطالبة أو عدم تأسيسها القانوني[33]. ويجب أن يقدم المدعى عليه الاعتراض إلى محكمة التحكيم مباشرة بعد تشكيلها على أن لا يتجاوز في ذلك التاريخ الذي تحدده الهيئة له لأجل تقديم مذكرته الدفاعية[34]. كما أن الهيئة ملزمة بالبت في هذه الاعتراضات في موعد معقول وأن تصدر حكما بشأنها، مع ذكر المبررات التي استندت عليها فيه[35]. أما لو تعلق الأمر بدفع بعدم اختصاص الهيئة التحكيمية فإن الهيئة ملزمة بالبت فيه بصورة مستعجلة بشرط أن يكون الدفع بعدم الاختصاص قد قدم خلال 45 يوما الموالية لتشكيل الهيئة[36]. ويكون هذا البت في موعد لا يتجاوز 150 يوما من تاريخ تقديم الدفع بعدم الاختصاص بواسطة قرار أو حكم معلل[37].

ويمكن للهيئة التحكيمية بعد البت في مسألة اختصاصها أو أي دفع أولي آخر أن تحكم للطرف الذي ربح المنازعة بتكاليف معقولة وأتعاب المحاماة التي تكبدها[38]. ولا يمكن في جميع الأحوال للمدعى عليه أن يقدم كوسيلة للدفاع مطالبة مضادة أو حقا في المقاصة، أو أية حجة أخرى تتمثل في أن المدعي تلقى أو سيتلقى تعويضا من التأمين أو تعويضا آخر يعوضه بشكل كامل أو جزئي عن الأضرار اللاحقة به وذلك عملا بعقد تأمين أو ضمان[39].

كما يخول اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي للهيئة التحكيمية سلطة الأمر باتخاذ إجراءات وقتية وتحفظية[40]. للمحافظة على حقوق أحد الأطراف، ومن قبيل هذه التدابير: الحفاظ على الأدلة التي هي في حوزة أو تحت سيطرة طرف منازع، على أن قرار الهيئة التحكيمية لا يمكنه أن يمتد إلى الأمر بمصادرة هذه الأدلة[41].

وإذا دفع المدعى عليه بان التدبير الذي على أساسه تم تحريك الخصومة التحكيمية يقع في نطاق باب محدد من أبواب الاتفاق، وجب على هيئة التحكيم بناء على طلب من المدعى عليه أن تطلب تفسير اللجنة المشتركة بشأن هذه المسألة. ويتعين على اللجنة المشتركة أن تقدم لهيئة التحكيم قرارا يتضمن تفسيرها لموضوع النزاع وذلك داخل 60 يوما من تقديم الطلب[42]. ويكون هذا القرار ملزما للهيئة التحكيمية، لكن في حالة ما إذا فشلت اللجنة المشتركة في إصدار القرار داخل الأجل المبين سابقا تبث محكمة التحكيم في المسألة. وإذا أثار أحد أطراف الخصومة التحكيمية اعتراضات حول بعض المسائل المتعلقة بالبيئة، الصحة، السلامة، أو أية قضايا علمية تستلزم آراء استشارية من طرف خبراء متخصصين ؛ فإن الهيئة التحكيمية بإمكانها – بطلب من أحد الأطراف – أن تعين خبيرا أو أكثر ليقدم لها تقريرا حول المسائل الخلافية. كما يمكن للهيئة التحكيمية أن تبث في طلبات الضم أي الحالة التي تقدم فيها مطالبتان أو أكثر -كل على حدة- وكانت المطالبات تهم نفس المسألة القانونية أو الواقعة والناشئة عن نفس الأحداث أو الظروف.

قبل صدور الحكم البات في جوهر النزاع يمكن للهيئة التحكيمية -بناء على طلب من أحد الأطراف المتنازعة- أن تحيل القرار أو الحكم المقترح على كافة الأطراف وذلك تمكينا لهم من تقديم ملاحظاتهم الكتابية بشأنه وذلك داخل أجل 60 يوما من تبليغهم بمشروع الحكم أو القرار. ويتعين على الهيئة التحكيمية أن تنظر في ملاحظات الأطراف وان تصدر قرارها النهائي في موعد لا يتجاوز 45 يوما الموالية لتسلم ملاحظات الأطراف. غير أن الأحكام السابق ذكرها لا تطبق في الأحوال التي يتاح فيها تقديم استئناف ضد المقرر التحكيمي[43].

ثانيا. صدور المقرر التحكيمي:

باستثناء اتفاق التبادل الحر بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، لم تعط باقي الاتفاقيات أية أهمية تذكر للحكم التحكيمي، شكلياته ومضمونه، حيث نلاحظ أن اتفاقيات حماية وتشجيع الاستثمار اقتصرت، على بيان كيفية اتخاذ القرار التحكيمي، قوته الإلزامية وتقسيم مصاريف التحكيم وتوزيعها بين الأطراف. بينما اكتفت اتفاقية الشراكة المغربية الأوروبية بالتنصيص على ضرورة اتخاذ المقرر التحكيمي بالأغلبية وضرورة قيام كل طرف في النزاع بجميع الإجراءات المتطلبة لتنفيذ القرار التحكيمي[44].

بالإضافة لما سبق ذكره حدد اتفاق التبادل الحر النطاق الموضوعي الذي ينبغي أن يَنصَب فيه قرار هيئة التحكيم، فالمادة 25.10 من الاتفاق تنص على ما يلي:

“1_عندما تصدر محكمة تحكيم حكما نهائيا ضد مدعى عليه، فإنه لا يجوز للمحكمة أن تحكم إلا بأحد أو كلا الحكمين التاليين :

أ- تعويضات مالية عن الأضرار، مع الفائدة أن اقتضى الأمر ذلك، و

ب- رد الممتلكات، وفي هذه الحالة يتعين أن ينص الحكم أيضا على أنه يجوز أن يدفع المدعى عليه تعويضات مالية وفائدة، عن اقتضى الأمر ذلك، بدلا من رد الممتلكات”.

إذن فقرار الهيئة التحكيمية لا يمكن أن يحيد عن أمرين: التعويض المالي عن الضرر أو رد الممتلكات. ويكون هذا الحكم إما لفائدة المستثمر إن هو أثار مسطرة التحكيم بصفة أصلية. أو لفائدة المقاولة التي يمثلها المدعي بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ولا يمكن أن تصدر الهيئة التحكيمية حكما يتضمن تعويضا جزائيا عن الأضرار. بمعنى أن التعويضات المالية التي تحكم بها الهيئة ما هي إلا تعويض في حدود الأضرار الواقعة.

وبخصوص القوة الإلزامية لحكم المحكمين توضح الفقرة 4 من المادة: 25.10 من الاتفاق أن له قوة ملزمة بالنسبة لطرفيه فقط وبالنسبة للقضية بعينها بحيث لا يمتد أثره بالنسبة للأغيار. وعليه وجب على طرفي النزاع الالتزام به والامتثال لمضمونه دونما تأخير إلا في حالة سلوك أحدهما لمسطرة مراجعة القرار التحكيمي.

وفيما يتعلق بصيرورة المقرر التحكيمي قابلا للتنفيذ فإن اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي يميز ما بين حالتين:

* الحالة الأولى _ صدور حكم نهائي بموجب أحكام اتفاقية واشنطن لسنة 1965: في هذه الحالة يصير المقرر التحكيم قابلا للتنفيذ بعد مرور أجل 120 يوما من تاريخ صدوره دون أن يطلب أحد أطراف المنازعة مراجعة الحكم أو إبطاله، أو أن تكتمل إجراءات مراجعة الحكم أو إبطاله[45].

* الحالة الثانية _ صدور حكم نهائي بموجب قواعد التسهيلات الإضافية للتحكيم لمركز واشنطن أو قواعد تحكيم (UNCITRAL) أو قواعد أخرى من اختيار أطراف المنازعة: في هذه الحالات يصير المقرر التحكيمي قابلا للتنفيذ بعد مرور 90 يوما من تاريخ إصداره دون أن يبادر أحد الأطراف المتنازعة إلى بدء إجراءات مراجعته أو نقضه أو إبطاله. كما يصير المقرر التحكيمي قابلا للتنفيذ بمجرد قبول أو رفض المحكمة لطلب مراجعة المقرر أو نقضه أو إبطاله دون مزيد من إجراءات الاستئناف. وبمجرد أن يصير الحكم قابلا للتنفيذ يعمل كل من الأطراف على تنفيذ الحكم على أراضيه. وفي حالة عدم امتثال أحد الأطراف لمضمون القرار التحكيمي للطرف الآخر أن يطلب تشكيل لجنة خاصة تعمل على استصدار حكم جديد يقضي بأن عدم الالتزام بحكم التحكيم النهائي أو عدم الامتثال له لا يتماشى مع الالتزامات المترتبة عن اتفاق التبادل الحر، ويمكن أيضا لهذه اللجنة أن تصدر توصية بأن يلتزم المدعى عليه بالحكم النهائي وأن يمتثل له[46]. ويتم تشكيل هذه اللجنة وصدور قرارها وفق الشكليات المبينة في المواد (من 7.20 إلى 9.20) من اتفاق التبادل الحر. وفي واقع الأمر لجوء أحد الأطراف إلى هذه اللجنة قصد استصدار مجرد توصيات بتنفيذ المقرر التحكيمي هو ضرب لجوهر فكرة التحكيم كقضاء مستقل قائم بذاته ومستمد لقوته التنفيذية من إرادة الأطراف، كما أنه يتناقض مع مضمون اتفاق التبادل الحر نفسه الذي ينص في الفقرة 7 من المادة 25.10 على أن كل طرف يسعى لتنفيذ المقرر على أراضيه بمجرد صيرورة نهائيا، إضافة لقوته الملزمة فيما بين أطرافه.

 هذا كل ما يتعلق بإجراءات التحكيم في إطار الاتفاقيات الاقتصادية للمغرب، سواء من حيث كيفية تحريك المطالبة التحكيمية وشروط قبولها، سير الخصومة التحكيمية وأخيرا من حيث صدور الحكم التحكيمي. والآن ننتقل في المطلب الثاني والأخير للتطرق إلى القانون الواجب التطبيق على التحكيم.

المطلب الثاني:  التحكيم التجاري في إطار منظمة التجارة العالمية

كما سبق ذكره فإن الاتفاق على إنشاء منظمة التجارة العالمية جاء في نهاية جولة الأوروغواي للتجارة الدولية 1986 -1993 وتم إقرار الاتفاق في الإعلان النهائي للجولة الذي وقعه وزراء التجارة في مراكش بالمغرب في أبريل 1994. وبالتالي انطلقت المنظمة في أول يناير 1995 لتحل محل الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة التي كانت بمثابة هيئة مراقبة للتجارة الدولية منذ 1948، وتعرف المنظمة رسميا بأنها المؤسسة الشرعية للنظام التجاري المتعدد الأطراف[47]، وعلى خلاف الاتفاقية العامة فإن منظمة التجارة العالمية مؤسسة دائمة قامت بموجب معاهدة دولية أقرتها حكومات الدول الأعضاء ونظرا لأنها الهيئة العالمية الرئيسية في تسوية الخلافات التجارية بين الدول وتضم المنظمة حوالي 150 دولة وتتوفر على هيئتان رئيسيتان هما هيئة تسوية المنازعات وهيئة استعراض السياسة التجارية كما تتوفر على هيئات أخرى كمجلس السلع ومجلس التجارة والخدمات ومجلس القضايا التجارية لحقوق التأليف…. وقد أرست المنظمة نظاما جديدا في مجال التسوية المنازعات التجارية بين الدول  أعطت فيه للتحكيم القائم على اتفاق الأطراف أولوية مطلقة عن سائر وسائل تسوية المنازعات الأخرى ومن هنا تظهر أهمية دراسة اتفاق التحكيم في إطار هذه المنظمة  باعتباره يمس العلاقات التجارية بين الدول، ويتميز بقواعد  وأحكام خاصة لها الأولوية في التطبيق عن قواعد وأحكام  قوانين التحكيم الداخلية، ونظراً لتعدد وسائل تسوية  المنازعات بداخلها وقيامها على نظام قانوني متكامل فقد ارتأينا تناول هذا المطلب من خلال التطرق لنظام تسوية المنازعات داخل المنظمة العالمية للتجارة (الفقرة الأولى)  ثم نتناول بعد ذلك الشروط والقواعد المرتبطة بتسوية المنازعات داخل منظمة العالمية للتجارة[48]( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تسوية المنازعات في إطار منظمة التجارة العالمية

إن الهدف من إنشاء آلية تسوية المنازعات في إطار منظمة التجارة العالمية هو تحقيق استقرار العلاقات التجارية بين الأطراف المتعاقدة وذلك برفع الضرر أو التعويض عنه وإعادة التوازن بينهم لذلك كان من أهم وظائف منظمة التجارة العالمية التي نص عليها الاتفاق (الميثاق) المنشأ لها هو أن تدير مذكرة الاتفاق الخاصة بالقواعد والإجراءات التي تحكم تسوية المنازعات.

وقد تداركت المنظمة العالمية للتجارة ما كان عليه الجات من مساوئ في مجال تسوية المنازعات[49]، فضلا عن أنها قد تبنت على خلاف سلفها نظام التحكيم من بين طرق تسوية المنازعات حتى تكفل أمن واستقرار النظام التجاري متعدد الأطراف فما هي الخصائص التي تميز نظام تسوية المنازعات داخل المنظمة؟

أولا: تعدد وسائل حسم النزاع

 لقد أوضحت المادة 23/1 من مذكرة الاتفاق أن نظام تسوية المنازعات داخل المنظمة العالمية للتجارة نظام قاصر عليها بمعنى أن الدول الشاكية أو المدعية لا تستطيع اللجوء خارج إطار المنظمة لتسوية منازعاتها وعلى الأخص أمام محكمة العدل الدولية، فكل دولة عضو بالمنظمة ملزمة بتسوية المنازعات في إطارها وحدها ووفقا للوسائل التي حددتها مذكرة الاتفاق. ومن جهة أخرى فهي نضام متعدد بمعنى ذ هناك أكثر من وسيلة تستطيع الدول الأعضاء أن تتخذها عند حدوث النزاع وهي:

1. التشاور

هي أول خطوة بين الأطراف المتنازعة للوصول إلى اتفاق ودي ينهي النزاع بينهم ويجب على الطرف الذي يوجه إليه طلب التشاور أن يستجيب له خلال مدة قصيرة وهي عشرة أيام على أن يتم التشاور خلال ثلاثين يوما من تاريخ استلام الطلب[50].

2. المساعي الحميدة

 إذا استشعرت الدولة المدعية أن التشاور لن يؤدي إلى حل لتسوية النزاع كان لها أن تطلب المساعي الحميدة، أي دخول أطراف أخرى محايد تساعد على إيجاد حل للنزاع ويقتصر دور الطرف في تقديم أسس للتفاوض وليس عليه أي التزام بل فقط بدل جهد معين للإصلاح بين الطرفين كالوساطة أو التوفيق لإنهاء المنازعات بين الدول.

3. المجموعات الخاصة.

تستطيع الدولة المدعية أن تتقدم إلى جهاز تسوية المنازعات داخل  المنظمة بطلب تشكيل مجموعة خاصة من الخبراء لتتولى الفصل في النزاع ويجب أن توضح الدولة المدعية في هذا الطلب موضوع  النزاع والأساس القانوني لدعوها، وعما إذا كان سبق  لها  الأخذ بالتشاور أو الطرق الودية الأخرى لحل النزاع من عدمه ويتولى الجهاز المذكور فحص الشكوى في أول اجتماع  له فإذا ما تم قبولها وهو الغالب ترتب  على ذلك دعوة الأطراف المتنازعة لاختيار ثلاثة خبراء ما لم يتفق الأطراف خلال مدة معينة على اختيار خمسة خبراء فإن تعذر ذلك قام مدير عام هذا  الجهاز بهذا الاختيار[51].

وتحاول المجموعة الخاصة أن تصل بداية إلى حل ودي يقتنع به طرفي النزاع فإن لم يتوصل إلى ذلك كان عليها أن تصدر قرارها والتوصيات التي تراها مناسبة في تقرير ترفعه إلى جهاز لتسوية المنازعات، ويسير عمل المجموعة الخاصة وفقاً لنظام قضائي يعتمد على الجلسات الشفهية والمذكرات المكتوبة ويكون القرار الصادر عنها قابلا للاستئناف أمام جهاز خاص بطلق عليه جهاز الاستئناف الدائم[52].

4. التحكيم الإلزامي.

أخيرا تأتي مرحلة التحكيم الإلزامي (تشكيل فرق  التحكيم) كسلسلة متتابعة من الإجراءات النظامية لحل النزاع بين الأطراف ويعطي الطابع الإلزامي للتحكيم لكل دولة مدعية الحق في إنشاء فرق للتحكيم للبث في النزاع حتى لو اعترضت على  ذلك الدولة الأخرى الطرف في النزاع، ويتم تشكيل هيئة  التحكيم من ثلاثة على خمسة أفراد من ذوي الخبرة  ويعتبر تشكيل الهيئة نهائيا مما لا يجوز لأي طرف الاعتراض  عليه ويجب أن يصدر قرار هيئة  التحكيم خلال ستة  أشهر من تاريخ إنشائها تنخفض إلى ثلاثة أشهر في  الحالات الطارئة ويستطيع المحكوم ضده الطعن في قرار هيئة التحكيم أمام جهاز الاستئناف الدائم، ويصبح قرار جهاز الاستئناف ملزما للأطراف بمجرد اعتماده من جهاز تسوية المنازعات ما لم يقرر الأخير وفقا لقاعدة الإجماع  السلبي عدم اعتماد القرار، هذا وينبغي على الطرف المحكوم  ضده في التحكيم أن يعلن جهاز تسوية المنازعات خلال ثلاثين  يوماً من تاريخ اعتماد التقرير النهائي بنواياه فيما يتصل  بتنفيذ حكم التحكيم وفي حالة رفضه أو عدم التزامه  بما جاء بالحكم فإنه يحق للدولة المتضررة أن يطلب من جهاز  تسوية المنازعات تعويضا من الدولة الممتنعة عن تنفيذ الحكم.

ثانيا: أجهزة متكاملة

1. هيكل تسوية المنازعات

ويضم هذا الجهاز ممثلين عن كافة الدول الأعضاء بالمنظمة ويختص بإدارة كافة وسائل تسوية المنازعات وسرعة الفصل فيها من خلال نظام متكامل وفعال على صعيد الإجراءات حيث يقوم هذا الجهاز بتلقي طلبات الدول المدعية وفحصها وإبلاغها إلى الدول المدعى عليها، كما يتلقى طلبات الدول الراغبة في الانضمام إلى موضوع النزاع ويقوم بإبلاغها إلى أطراف النزاع الأصليين.

2. جهاز الاستئناف الدائم[53]

نصت المادة 17/1 من مذكرة الاتفاق على أن ينشأ داخل جهاز تسوية المنازعات جهاز استئناف  Organe d’appel permanentيختص بنظر طلبات الاستئناف طعناً في القرارات الصادرة من المجموعات الخاصة  وبأخذ الجهاز نفس المهمة التي تقوم بها محكمة النقض في القضاء الداخلي إذ يقتصر دوره على رقابة قرارات المجموعات الخاصة  من الناحية القانونية فقط ويرفع الجهاز تقريره سواء  بتأييد هذه القرارات أو تعديلها أو بإلغائها إلى جهاز تسوية  المنازعات فإذا قرر هذا الأخير الموافقة عليه أصبح تنفيذه  واجباً.

الفقرة الثانية: الشروط والقواعد المرتبطة بتسوية المنازعات داخل منظمة العالمية للتجارة

 يتم اللجوء إلى التحكيم في إطار المنظمة العالمية للتجارة كطريق اختياري أوردته مذكرة الاتفاق ضمن وسائل تسوية المنازعات الأخرى. ورغم أن التحكيم مقصور على الدول الأعضاء بالمنظمة والتي ارتضت سلفا الأخذ بأحكام مذكرة الاتفاق الوارد بها نظام التحكيم، إلا أنه يشترط أن يكون هناك اتفاق صريح بين الأطراف المتنازعة، فلا يجوز أن تتقدم الدولة المدعية رغما عن إرادة الطرف الآخر ودون الحصول على موافقته[54].

أولا: شروط صحة اتفاق التحكيم في إطار منظمة التجارة العالمية

هناك ثلاثة شروط أساسية يلزم توافرها لصحة اتفاق التحكيم في إطار منظمة التجارة العالمية وهي:

1. الانتماء إلى المنظمة

فلا يجوز الاتفاق بين دولة وشخص معنوي عام أو خاص فهذا الاتفاق يحسم خارج المنظمة ويجب أن تكون الدولتان من أعضاء المنظمة.

2. نشوء نزاع يتعلق بأحد الاتفاقات التجارية للمنظمة.

فإذا كان النزاع ناشئا عن تجارة خارج هذه  الاتفاقات فإن التحكيم  لا يجد مجالا له في إطار المنظمة أي وفقا لقواعدها وأحكامها، وإنما يجد مجاله وفقا لقواعد التحكيم العادي  وتجب التفرقة  في خصوص الاتفاقيات التي أوردتها المنظمة بين الاتفاقات  التجارية متعددة الأطراف، والاتفاقات التجارية  الجماعية  فالأولى كما سبق هي اتفاقات ملزمة لجميع الدول الأعضاء وبالتالي فإن اتفاق التحكيم الوارد بشأن أي نزاع عنها هو اتفاق تحكيم صحيح وفعال، أما الاتفاقات التجارية الجماعية فهي لا تلزم سوى الدول التي انضمت إليها ومن ثم يكون اتفاق التحكيم الوارد بشأن المنازعات  الناشئة عنها مقصور على هذه الدول دون غيرها.

3. إعلان اتفاق التحكيم للدول الأعضاء بالمنظمة.

 ويشترط أخيراً أن يعلن اتفاق التحكيم إلى جميع الدول الأعضاء بالمنظمة ويجب أن يتم هذا الإعلان قبل افتتاح إجراءات التحكيم بوقت معقول ويعد ذلك من الشروط الشكلية الهامة التي يجب مراعاتها وفقاً لما نصت عليه مذكرة الاتفاق والعلة من هذا الشرط أن يكون بقية الأعضاء على علم بموضوع النزاع لإعطاء الفرصة لأية منها أن تطلب الانضمام إلى إجراءات التحكيم إذا كانت لها مصلحة تجارية جوهرية وهي القاعدة التي تسير عليها المنظمة في كافة وسائل تسوية المنازعات.

ثانيا: القواعد القانونية المرتبطة باتفاق التحكيم في إطار منظمة التجارة العالمية.

 إذا توافرت الشروط الثلاثة السابقة كان اتفاق التحكيم قابلا لتسوية النزاع في إطار المنظمة وفي هذه الحالة يرتب اتفاق التحكيم التزاما على جانب المحكم بتطبيق أحكام الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف أو الاتفاقات التجارية الجماعية كما يلتزم المحكم عند تفسيره لهذه الاتفاقات أو أي نص من نصوص الاتفاق المنشئ للمنظمة أن يستند على القواعد العرفية في التفسير وفقا للقانون الدولي العام وعليه أيضا مراعاة القاعدة العامة التي يسير عليها جهاز تسوية المنازعات وهي تحقيق العدالة بين الدول الأعضاء في تنفيذ الاتفاقات التجارية، فلا يؤدي  القرار عنه إلى زيادة أو نقصان في حقوق والتزامات الدول الأعضاء بالمنظمة[55] كما تستبعد أحكام القوانين الوطنية كلية من موضوع النزاع وفي حالة وجود فراغ قانوني محتمل في الاتفاقات التجارية يستطيع المحكم أن يستند إلى تطبيق أحكام قانون التجار(LEX MERCATORIA) باعتباره يلعب دورا كبيراً في هذا المجال.

ويتميز حكم التحكيم بأنه نهائي يتعين تنفيذه بمجرد صدوره، فلا يجوز الطعن فيه أمام جهاز الاستئناف الدائم على غرار القرارات ألصادرة من المجموعات الخاصة كما يتميز بأنه يحوز حجية الأمر المقضى به وبالتالي فهو يأتي في مرتبة أعلى من قرارات المجموعة الخاصة بل ومن قرارات الاستئناف ذاتها وهو الأمر الذي يفسر تنفيذه دون حاجة إلى تبني جهاز تسوية المنازعات له[56].

والجدير بالإشارة أن كل اتفاق تحكيم يأتي في إطار منظمة التجارة العالمية يكون قابلاً لتسوية النزاع خلال فترة قصيرة وهو ما أطلقت عليه مذكرة الاتفاق إصطلاحا (التحكيم السريع) حيث جاء نصها على النحو التالي: “لأطراف النزاع الحق في اللجوء إلى تحكيم سريع في إطار منظمة التجارة العالمية كوسيلة بديلة من وسائل تسوية المنازعات، وذلك من أجل التوصل لحل الخلافات التي تنشأ بينهم والمحددة بمعرفتهم بطريقة كافية”[57].

ثالثا: تنفيذ حكم التحكيم في إطار منضمة التجارة العالمية

وإذا كان جهاز تسوية المنازعات لا يقوم بالتصديق على حكم التحكيم الصادر في إطار المنظمة العالمية للتجارة، إلا انه يعمل على ضمان تنفيذ هذا الحكم، وبالتالي إذا لم تقم الدولة الصادر ضدها حكم التحكيم بتنفيذه خلال مدة معقولة فإن الجهاز المذكور يضع بصفة دائمة في جدول أعمال اجتماعاته الدورية بحث تنفيذ حكم التحكيم حتى يتم تنفيذه فعلاً.

ويسير الجهاز على نفس القاعدة التي يضمن لها تنفيذ القرارات الصادرة من المجموعات الخاصة أو جهاز الاستئناف الدائم، إذ يعطي  الدولة المحكوم لها الحق في طلب التعويض (Compensation)، إذا لم يتم التنفيذ خلال مدة معقولة كما يرخص لها بتعليق تنازلاتها  أو أية التزامات أخرى بادئا بالقطاع الذي حدثت فيه المخالفة، فإذا كان هذا القطاع غير ممكن أو غير مؤثر رخص لها  في الانتقال لقطاع آخر يشمله الاتفاق[58]، ولا تعتبر هذه الإجراءات بديلا عن تنفيذ حكم التحكيم وإنما تعتبر  إجراءات وقتية إلى أن تقوم الدولة بتنفيذ حكم التحكيم أو يتم التوصل إلى حل ودي للنزاع.

خاتمة

يبدو جليا أنه مما ساعد على تدعيم مؤسسة التحكيم ظهور حالات جديدة من التنازع تتميز عن الخلافات التقليدية التي تنشأ عن علاقات التجارة الدولية تتماشى والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، حيث ينشأ الخلاف عادة بين شخص أجنبي، وفي الغالب شركة ذات وزن اقتصادي كبير، ودولة ذات سيادة أو مؤسسة عمومية تابعة لها، أو عندما يتعلق النزاع بعمليات اقتصادية طويلة الأمد يقوم بها الشخص الأجنبي داخل إقليم الدولة، ويلتزم بالقيام بها عن طريق عقود يبرمها مع الدولة أو المؤسسة العمومية التابعة لها، فقضاء التحكيم يعد أكثر تناسبا مع هذا النوع من الأنشطة الاقتصادية، وأكثر تلاؤما مع حاجات التجارة الدولية والعولمة الاقتصادية، وما يزكي ذلك أن أغلب الفقه قد اعتبر التحكيم قضاءا أصيلا للتجارة الدولية، فقد يحجم المستثمرون عن استثمار أموالهم في دولة يعلمون أن اللجوء إلى القضاء الوطني في الدولة المضيفة هو الوسيلة الوحيدة لاقتضاء حقوقهم التي يلحقها ضرر من إجراء تصرف تأتيه هذه الدولة، ذلك أنه يعني أن الدولة المضيفة تصبح خصما وحكما في آن واحد، ويؤدي هذا الأمر إلى ضيق نطاق الاستثمار في تلك الدول، ويشكل عائقا لنمو نشاطها التجاري أو الصناعي وعلى خلاف ذلك فإن الأخذ بنظام التحكيم يخلق مناخا استثماريا مفضلا لدى المستثمرين الأجانب.

ومع إنشاء المنظمة العالمية للتجارة أصبحت عقود الدولة تمثل جزءا أساسيا من الاقتصاد العالمي الأمر الذي أعطى لها منظورا جديداً في مجال تسوية المنازعات التجارية بين الدول أعطت فيه للتحكيم القائم على اتفاق الأطراف أولوية مطلقة على سائر وسائل تسوية المنازعات الأخرى.

والملاحظ أن الضمانات التي يوفرها التحكيم التجاري الدولي، جاءت مواكبة للتطورات الحاصلة على مستوى التجارة الدولية ومتطلبات العولمة الاقتصادية. إذ من غير الممكن بل من المستحيل أن نجد عقدا تجاريا دوليا خاليا من الإشارة إلى التحكيم، وهذا ما حدا بجل الدول إلى تنظيمه، بل أكثر من ذلك أصبح لجوء الدول إلى التحكيم بمثابة تنازل عن حصانتها القضائية.

وبناء على ما سبق يتضح لنا أن الأسس التي يقوم عليها التحكيم داخل المنظمة لا تختلف كثيراً عن تلك التي تتم في مؤسسات ومراكز التحكيم الدولية المختلفة فالتحكيم في كلتيهما لا يخضع لسلطة الدولة، ويرتبط ارتباطا وثيقاً بالتجارة الدولية وبالاتفاقيات الاقتصادية الدولية، لكن هذا لا يمنعنا من الحديث عن مختلف الشروط والإجراءات القانونية المرتبطة بالتحكيم التجاري وكذلك تحديد طبيعته القانونية وتداخله مع قضاء الدولة.

د. مولاي مراد القادري

——————————————–

[1] إبراهيم المؤيد، (الإستثمار ومحفزات تشجيعه في القانون اليمني والمغربي)، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة التكوين والبحث في القانون التجاري المقارن، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية وجدة. ص 4.

[2] هشام خالد، جدوى اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي، منشأة المعارف بالإسكندرية، 2005 ص:32

[3] Le modèle américain d’accord de protection et d’encouragement des investissements 2004- Mohamed ABIDA (OP.Cit) P:51

[4] مصطفى محمد الجمال وعكاشة محمد عبد العال، مرجع سابق ص126.

[5] حفيظة السيد الحداد، مرجع سابقص 90

[6] انظر على سبيل المثال الفقرة الأولى من المادة الرابعة من اتفاق تشجيع وحماية الاستثمار المبرم بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية وجاء فيها:

أ- تتم في حدود الإمكان تسوية كل خلاف بين حكومة المملكة المغربية وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية  بشأن تأويل هذا الاتفاق أو أي خلاف له علاقة في نظر إحدى الحكومتين بإحدى قضايا القانون الدولي المترتبة عن كل مشروع أو نشاط يكون موضوع دعم الاستثمار عن طريق المفاوضات بين الحكومتين. وفي حالة عدم توصل الحكومتين إلى تسوية الخلاف، بعد مضي ستة أشهر على تقديم طلب المفاوضات بعرض الخلاف. بما في ذلك معرفة ما إذا كان الخلاف يشكل إحدى قضايا القانون الدولي، بمبادرة من إحدى الحكومتين على محكمة تحكيمية تقوم بتسوية طبقا للفقرة (ب) من هذه المادة.”

[7] الملاحظ أن جميع الاتفاقيات التي أبرمتها بلادنا في مجال تشجيع وحماية الاستثمار قد استقرت على تحديد هاته المدة في ستة أشهر وهي مدة طويلة نوعا ما ولا تراعي ظروف الاستعجال أو الحالات الطارئة، لاسيما وأن هاته المدة تتزاحمها مدة أخرى لاحقة هي مدة مسطرة التحكيم، وبالتالي فمن الأفضل تقصير مدة المشاورات والمفاوضات إلى 3 أشهر أو أقل وذلك تشجيعا للأطراف على التوصل للحل الأمثل لفض النزاع توافقيا، أو تفويض ذلك إلى المحكمين.

[8] Jinan LIMAN: l’évaluation du Cadre institutionnel établi par le partenariat Euro méditerranéen. Paru sur : http://cide.univ.szczecin.pl/mec3/P:102

[9] هذا ونلاحظ إغفال اتفاقية الشراكة المغربية الأوروبية التنصيص على مقتضيات تسوية منازعات الاستثمار، فهل هي خاضعة لاتفاق الأطراف أم أنها خاضعة لأحكام اتفاقية ( Washington 1965).

[10] Jinan LIMAN: l’évaluation du cadre institutionnel établi par le partenariat Euro Méditerranéen. (OP.Cit). page:114

[11] Philipe LEGER: le règlement des différents relatifs à l’interprétation et à l’application des accords d’association : allocution dans le cadre du colloque sur : les Accords Euro méditerranéens et leurs effets sur le droit des associés. Organisé par la faculté de Droit et des sciences politiques de Tunis- les 26 et 27 novembre 1997.

[12] على سبيل المثال لا الحصر: اتفاقيات تشجيع وحماية الاستثمار مع الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا،اليونان… وقد جاءت جميعها بمقتضيات متوازنة بخصوص التحكيم الحر، كذلك المقتضيات المتعلقة بالتحكيم الحر في إطار اتفاق التبادل الحر المبرم مع الولايات المتحدة الأمريكية.

[13] انظر الفقرة الثالثة من المادة 20-7 من الاتفاق.

** الفقرتين 1و2 من الملحق رقم 8 من اتفاق التبادل الحر المبرم بين المغرب والمجموعة الأوربية للتبادل الحر.

[14] انظر الفقرة الرابعة من المادة 20-7 من الاتفاق.

[15] انظر الفقرة 1 من المادة 20-8 من الاتفاق.

[16] انظر الفقرة 2 من المادة 20-8 من الاتفاق.

[17] انظر المادة 20-9 من الاتفاق. (الفقرة الأولى).

[18] انظر المادة 20-9 من الاتفاق. (الفقرة الثانية).

[19] الفقرة 7 من الملحق رقم 8 المتعلق بتشكيل الهيئة التحكيمية وسير عملها.

[20] Jinan LIMAN: l’Evaluation du cadre institutionnel établi par le partenariat Euro Méditerranéen: (Op.Cit) P:113.

[21] أحمد عبد الكريم سلامة: قانون التحكيم التجاري الدولي والداخلي: مرجع سابق-ص:77

[22] Linda DUCRET: l’arbitrage international face aux PME. Le magazine des dirigeants d’entreprises. N° 60- juillet 2007. Page:22

[23] مصطفى محمد الجمال وعكاشة محمد عبد العال: التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية والداخلية- مرجع سابق.ص:127

[24] LouisBARIBEAU: les Formes d’Arbitrage International- le journal du Barreau du Québec- volume 32- N° 6. avril 2000.

[25] ثروت حبيب: دراسة في قانون التجارة الدولية_ منشأة المعارف بالاسكندرية_ السنة 1975. ص:110

[26] حول هاته المزايا انظر: مصطفى محمد الجمال وعكاشة محمد عبد العال: التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية والداخلية_ مرجع سابق – ص 128.

[27] Catriona Paterson: Investor to state dipute settlement in Infrastructure Projects- OECD working papers on international Investment. OECD publishing- February 2006. P:22

[28] الفرع (ألف / A) متعلق بالاستثمار.

[29] الفقرة 3 من المادة 15.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[30] سوف نحاول التطرق لهذه العملية بتفصيل من خلال القسم الثاني

[31] انظر الفقرة الأولى من الفصل 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[32] انظر الفقرة 2 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[33] انظر الفقرة 4 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[34] انظر الفقرة (أ) 4 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[35] انظر الفقرة (ب) 4 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[36] انظر الفقرة 5 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[37] انظر الفقرة 5 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[38] انظر الفقرة 6 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[39] انظر الفقرة 7 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[40] وهو ما أصطلحت عليه الفقرة الثامنة من المادة 19.10 : “اتخاذ تدابير حمائية مؤقتة للحفاظ على حقوق طرف منازع”

[41] أنظر الفقرة 8 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[42] أنظر الفقرة 1 من المادة 22.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[43] انظر الفقرة (ب) 9 من المادة 19.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[44] انظر الفقرة الأخيرة من المادة 86 من اتفاقية الشراكة المغربية الأوروبية.

[45] انظر الفقرة (أ) 6 من المادة 25.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[46] انظر الفقرة 8 من المادة 25.10 من اتفاق التبادل الحر المغربي الأمريكي.

[47] محمد الأعرج – القانون الدولي الإقتصادي – السمات الرئيسية-  الأشخاص- بدون طبعة-2006-  ص 102.

[48]  أنظر  وثيقة التفاهم بشأن القواعد والإجراءات التي تحكم تسوية المنازعات داخل المنظمة في موقع  المنظمة WWW.WTO.org

[49] اقتصرت الجات على تسوية المنازعات التي تنشأ عن أحكامه بطريق التوفيق والذي كان يتم في الغالب في إطار المفاوضات السياسية والدبلوماسية ولم يكن هناك أي قرار يستطيع الجات  أن يفرضه على الدول الأعضاء وكانت القرارات الصادر عنها يمكن عرقلتها وعدم تنفيذها .

[50] تحتل المشاورات الدبلوماسية مكانة هامة كإجراء لتسوية المنازعات.

[51] يقوم مدير عام الجهاز باختيار الخبراء من قائمة  مسجلة  لدى سكرتارية المنظمة ويراعي في الاختيار أن لا يكون  أحد الخبراء من  جنسية الأطراف المتنازعة إلا إذا اتفق الأطراف في خلاف ذلك  وهناك  شروط خاصة أو صحتها المادة 8 من مذكرة الإتفاق

[52] المادة  11 من مذكرة الإتفاق

[53] أنظر وثيقة التفاهم شأن القواعد والإجراءات التي تحكم تسوية  المنازعات 17/1.

[54] ويأتي التحكيم هنا كطريق مباشر دون اللجوء إلى وسائل تسوية  المنازعات الأخرى، مثل  التشاور، المساعي الحميدة، المجموعات الخاصة أي  أنه لا يأتي في سلسلة متتابعة من الإجراءات ينبغي استنفاذها  أولا حتى يتم اللجوء إليه كما هو الحال في التحكيم الإلزامي.

[55] تنص المادة 3/2 من مذكرة الاتفاق على ما يلي :

«  Les décisions de ORD ne pouvant en aucun cas de diminuer les droits et les obligations de l’Etats ».

[56] هذا ما تنص عليه المادة 25/3 من مذكرة الاتفاق ” على أن قرارات التحكيم لا تحتاج لأي تصديق عليها من قبل جهاز تسوية المنازعة.

«  Les décisions arbitrales n’ont pas a être approuvé par l’organe  de règlement des différents ».

[57] «  Les parties au litige pouvant recouvrir à un arbitrage rapide  dans le code de l’organisations mondiale du commerce, comme  un autre moyen de règlement des différents pour faciliter la solution de certain différent concernant des questions  clairement définies par les deux parties ».

[58] وهو ما يطلق عليه نظام الإجراءات المتزايدة  ( Système de retoision croisé ) أنظر المادة 22/2 من مذكرة الإتفاق.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *