البشرية على أعتاب أكبر انفتاح تكنولوجي في التاريخ

الرئيسية » علم وحضارة » البشرية على أعتاب أكبر انفتاح تكنولوجي في التاريخ

هل تصدق لو قيل لك إن العالم سيتغير خلال 10 سنوات من اليوم، ليصبح أقل كلفة وأكثر عدلا، ويختفي منه الفقر؟ لن تلام إن رفضت تصديق . ولكن، هذا ما يحاول تقرير صدر حديثا أن يقنعنا به، والأهم أن يقنع، أيضا، صناع القرار والحكومات بتبنيه.

في السنوات العشر القادمة، تتلاقى فروع التكنولوجيا الرئيسية لإحداث انفتاح في القطاعات التأسيسية الخمسة؛ المعلومات، والطاقة، والغذاء، والنقل والمواد التي تدعم الاقتصاد العالمي، ومعها أيضا الصناعات الرئيسية في العالم.

رؤية مستقبلية

تكاليف الإنتاج ستنخفض لتصل إلى عشر ما هي عليه اليوم أو أقل، وهذا سيرفع من كفاءة الإنتاج، ويقلص الحاجة لاستخدام موارد الطبيعة إلى أقل من عشرة في المئة مما نحتاجه حاليا، وسينعكس ذلك على حجم النفايات ليصبح عشر ما هو عليه الآن، بل قد ينخفض إلى واحد في المئة أيضا. ليست فقط مسيرة التقدم في التكنولوجيا الفردية هي ما سينقذنا.

ما يصفه طوني سيبا وجيمس أربيب بـ”أسرع وأعمق تحول للحضارة الإنسانية في التاريخ”، هو ليس مجرد إعادة صياغة للثورة الصناعية الرابعة، والتي نعلم أنها جارية حاليا من خلال تطبيقات التكنولوجيا الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد.

هذه الرؤية المستقبلية تم نشرها في تقرير جديد تحت عنوان “إعادة التفكير في الإنسانية”، والذي يضع خطة عمل تمتد من عام 2020 إلى عام 2030. وبحسب ما قاله المؤلف المشارك للتقرير والمؤسس لمركز الأبحاث RethinkX طوني سيبا، فإن البشرية لا تحتاج طفرة تكنولوجية مفاجئة لتحقيق هذا الإنجاز. في الواقع، ستبدو العديد من التنبؤات التي حفل بها التقرير مألوفة لمن هم على دراية بالتغير الحاصل اليوم. تذكّر التنبؤات التي قدمها التقرير بالمدينة الفاضلة. وعلينا أن نعترف أن الرؤية التي وضعها معدّا التقرير ليست بعيدة كل البعد عن ذلك، ومنها حل مشكلة التغير المناخي، والقضاء على الفقر، في غضون الخمسة عشر عاما القادمة.

لقد أثبت طوني سيبا وجيمس أربيب دقة تنبؤاتهما حول سرعة وحجم الاضطراب التكنولوجي، على مدار العقد الماضي، بشكل مثير للإعجاب. لذلك يستحق التقرير، الذي جاء بتسعين صفحة، إلقاء نظرة فاحصة.

يفترض معدّا التقرير أننا على أعتاب العصر الثالث للبشرية، وهو ما تم وصفه بـ”عصر الحرية”. وأهم ما يميز هذه الحقبة الجديدة هو التحول والابتعاد عن هيمنة المركز، الذي سيتم التخلي عنه لصالح الإبداع المحلي، الذي سيبنى، ليس على الفحم والنفط والصلب والماشية والخرسانة، بل على الفوتونات، والإلكترونات، والحمض النووي، والجزيئات والبت الكمومي (كيوبت).

ويتنبأ التقرير، على سبيل المثال، أن الجمع بين تخزين الطاقة الشمسية والشبكات الرخيصة، سينهي احتكار أنظمة الطاقة، التي هي حاليا احتكار لحكومات الدول، لتصبح في متناول الأفراد الذين سيلجأون إلى إنتاجها بشكل ذاتي. ولا يستبعد التقرير أن يؤدي الاعتماد الواسع النطاق للمركبات الكهربائية المستقلة، إلى اختفاء ظاهرة ملكية السيارة، وذلك لمزايا الركوب عند الطلب. هذا كله سيؤدي إلى إعادة تصور وتصميم طرقاتنا وبنيتنا التحتية، ويغير المظهر الذي ستبدو عليه المدينة تماما.

مفترق طرق

منذ عشرين عاما فقط، أثار التفكير بالطاقة البديلة، الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، سخرية العديد من رجال الإعمال وصناع القرار، وذلك لكلفتها العالية. وكان منتجو الطاقة الأحفورية مطمئنين لكسب الجولة. اليوم تعتبر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أرخص مصادر الطاقة لغالبية دول العالم.

الثورة التكنولوجية ترافقها ثورة اجتماعية، وتعد حملتا “حياة السود مهمة” و”أنا أيضا” مثالين واضحين على الكيفية التي تستطيع من خلالها شبكات المعلومات تعبئة المجتمع بفاعلية. كل هذا يشير إلى أن البشرية تقف الآن عند مفترق طرق.

ولكن، رغم أن النظام الحالي يملك القدرة على إدراك الفوائد الاجتماعية غير العادية التي تتيحها هذه التكنولوجيات، فإن هذه الخطوة تعتمد على تحوُّل غير مسبوق في المجتمع. ومع تسارع هذا الانفتاح، يصبح القادة غير قادرين بشكل متزايد على فهم العالم وإدارته وتنظيمه.

لهذا السبب تشهد بعض الدول ظلما اجتماعيا واضطرابا، وتدميرا للبيئة، وجائحة عالمية تعيث فسادا في المجتمع. وهذه مجرد بداية. إن نماذج الفكر ونظم المعتقد والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية (والتي تشكل معا هيكل البشرية التنظيمي) هي آثار العصر الصناعي، وقد تطورت هذه الأنظمة وحُسّنت لتتماشى مع صناعات الأمس.

التقرير يقدم خطة عمل للتعامل مع التغيرات المستقبلية التكنولوجية وينصح بضرورة التخلي عن عالم ما بعد الثورة الصناعية. ويقدم خطة عمل مفصلة للمستثمرين وواضعي السياسات وقادة الشركات لتبنّي نظام الإنتاج الجديد القائم على الإبداع في حل أكثر التحديات العالمية صعوبة.

تتمثل الخطوة الأولى في التعرف على السرعة والحجم والطبيعة غير الخطية للانفتاح في المستقبل، وتسريع عملية الطرح والبنية التحتية وسلاسل القيمة لنظام الإنتاج الجديد. وينصح التقرير بضرورة مقاومة الرغبة في حماية الصناعات القديمة القائمة، والتي ستؤدي إلى أنظمة غير تنافسية وأصول عالقة وخسارة التريليونات من الدولارات.

بدلا من ذلك، يحث التقرير على التركيز على حماية الناس والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي مع الخفض الاستراتيجي لطرق الإنتاج القديمة (أي الوقود الأحفوري والزراعة التقليدية).

حماية الأفراد

مع هذا التحول، يجب على الحكومات ترك أعمال الطاقة، وإنهاء سيطرتها على قطاع توليد الطاقة الكهربائية ونقلها، وعلى خطوط الأنابيب والمناجم.

ولا بد من التنويه إلى أن الحكومات الأوروبية ومنذ خمس سنوات بدأت في تشجيع الأفراد على الاستثمار في توليد الطاقة، في محاولة لإنهاء المركزية بإنتاجها. واليوم أصبحت أنظمة الطاقة الشمسية المنزلية توفر حلول الإضاءة والتدفئة وتشغيل الأجهزة بكلفة صفر، بل وتشجع بعض الحكومات الأفراد على بيع الفائض منها.

ويتم أيضا تجميع مياه الأمطار وإعادة معالجتها اعتمادا على الطاقة الشمسية المنتجة ذاتيا، لتستخدم في سقي الحدائق والتنظيف. ويشير التقرير إلى تجنب فرض ضرائب على التوليد الذاتي للطاقة الشمسية أو تخزين الطاقة، بل تطبق فقط على المبيعات أو الأطراف الثالثة.

ويرجع معداّ التقرير الحاجة إلى هذه التغييرات، لحماية الناس وليس الشركات. التغيرات التي يشهدها قطاع الطاقة، يشهدها أيضا قطاع النقل، حيث أعادت شركات مثل “أوبير” و”ليفت” التفكير في خدمات النقل. وبدأ الأفراد يعيدون التفكير جديا بأهمية امتلاك السيارة، فكل ما يحتاجون إليه هو اتصال لتكون وسيلة النقل جاهزة لخدمتهم خلال دقائق معدودة.

وتمثل شركة “امبوسبل فوود” تحديا جديا للزراعة بشكلها التقليدي، وذلك من خلال طرح ابتكارات ثورية جديدة. وينصح التقرير الحكومات بالسماح للشركات التي فشلت في تطبيق النظام الجديد بإشهار إفلاسها، مع حماية الناس، من خلال سياسات إعادة التدريب، وتوفير الدعم المالي والرعاية الصحية، والوصول إلى رأس المال الاجتماعي خلال الفترة الانتقالية.

وعلى الحكومات أن تسارع في الاستثمار لنشر البنية التحتية الجديدة، خاصة في القطاعات التأسيسية الخمسة:

المعلومات: 5G، النطاق العريض، شبكات الأقمار الصناعية الصغيرة والمركبات الجوية غير المأهولة.

الطاقة: الطاقة الشمسية، الرياح والبطاريات.

النقل: البطاريات، شبكات أساطيل الشحن، دعم المركبات ذاتية القيادة، ودمج وتحويل السكك الحديدية والنقل العام.

الغذاء: التوزيع والتوطين.

المواد: بناء القدرة الإنتاجية للبروتينات والمواد العضوية.

ويوصي التقرير بإخضاع بيانات المستخدم لقوانين الملكية الفكرية، أي أن يمتلك الأفراد بياناتهم الشخصية، ويكون لهم الحق في ترخيصها لأي جهة وفقا لشروطهم الخاصة. على سبيل المثال، فإن بيانات المستهلك حول استخدام الطاقة والنقل والتغذية الشخصية والرعاية الصحية لها قيمة. ومن ثم من شأن ضمان ملكية الأفراد للبيانات الخاصة، التي تستخرجها حاليا أطراف ثالثة، أن يوفر فوائد اقتصادية للمستهلكين.

تغيير القواعد

هذا يعني أن “الاتفاقات القانونية”، التي تجبر بموجبها شركات مثل فيسبوك وغوغل وأمازون المستخدمين على التخلي عن حقوق بياناتهم مقابل الوصول إلى التطبيقات، يجب أن تكون غير قانونية. وستكون للانفتاح القادم آثار عميقة على الاستثمارات وإدارة الأصول أيضا. ويشير التقرير إلى ضرورة حماية المعاشات التقاعدية والمدخرات من الأصول العالقة واستخدامها بدلا من ذلك لبناء النظام الجديد.

كما حث على إنشاء فئات أصول جديدة، للسماح للأفراد بالاستثمار مباشرة في مشاريع توليد النقد الصغيرة، مثل الطاقة الشمسية للمجتمعات المحلية، ومحطات طاقة البطاريات، ومركبات النقل كخدمة.

وسوف يتطابق العائد الثابت لهذه الاستثمارات بشكل وثيق مع حجم المسؤولية عن خطط معاشات التقاعد (أكثر بكثير من محافظ المعاشات التقاعدية التقليدية)، وهي أيضا تشكل مصدرا جيدا للاحتياجات النهائية التي صُممت معاشات التقاعد من أجلها، مثل: الغذاء، والإسكان، والطاقة والنقل.

إن تغيير القواعد للمساعدة في دفع أصول معاشات التقاعد والمدخرات نحو هذه التكنولوجيات والمشاريع من شأنه أن يوفر حجر الأساس للانفتاح والملكية القائمة على المشاركة، أو عقد اجتماعي جديد يقوم على “الحق” في الطاقة وغير ذلك من الاحتياجات. ونظرا إلى أن شبكات المعلومات تستحوذ على حصة متزايدة من النشاط الاقتصادي، مدفوعة بتأثيرات الشبكة القوية، ستحتاج نماذج الملكية المعتادة التغيير لمنع حدوث عدم المساواة على نطاق غير مسبوق.

ويعد تكييف الضرائب والرسوم لتناسب النظام الجديد أمرا بالغ الأهمية. ويوضح التقرير كيفية تقسيم الضرائب بأن يكون للأفراد الحق في توليد الكهرباء وتخزينها وبيعها. ويعد هذا التقرير دعوة واضحة لصناع القرار لمعرفة ما يحدث حقا، وفهم الآثار المترتبة، وإعادة التفكير في الطريقة التي تؤدي بها البشرية الأعمال والاستثمارات وتنظيم المجتمع.

ويقول سيبا “المستقبل ليس مخططا ومقررا بشكل مسبق؛ يمكننا أن نختار الارتقاء بالإنسانية إلى آفاق جديدة غير مسبوقة أو بدلا من ذلك، الحفاظ على الوضع الراهن، بل والانحدار إلى عصر مظلم”.

ويضيف “نظرا إلى أن الصدمات المتتالية والمتزامنة والتي يمكن التنبؤ بها تزعزع استقرار حضارتنا في عشرينات القرن الواحد والعشرين، فإن الاستجابة السريعة ستكون من أجل مزيد من المركزية وتركيز صنع القرار والموارد، مما يمنح الدول القومية التي كانت تعاني سابقا من الجمود، القوة والقدرة على اتخاذ إجراءات حاسمة”.

وختم قائلا “من الضروري ألا تُستخدم هذه القوة لإصلاح القديم، ولكن لتسريع النظام الجديد”.

صحيفة العرب

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *