الإبداع والتنوير

الرئيسية » الأعمدة » حروف » الإبداع والتنوير

يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بكونه قادرا على الإبداع والاختراع، وبعيدا عن الدراسات التي أصبحت اليوم تكتشف في عوالم الحيوان أنماطا من التنظيم والتدبير تعبر عن ذكائهم الخاص، فإن المسألة في هذا المحل لاتتصل بالذكاء الغريزي الباحث عن فرص الحياة ، والتكيف مع المتغيرات المختلفة ، بل تلك المقدرة الخارقة التي بها يستطيع الإنسان أن ينتقل بوضعه من شأن إلى آخر، ويرجح بين واقع وآخر، إذ سرعان ما تتبدى في أفقه عوالم أخرى يسعى لارتيادها طمعا في حياة جديدة ممكنة، ما كان لغيره أن يتخيلها قط ، أو يحسبها في الإمكان.

 ولذلك فالأوضاع التاريخية المختلفة ، والعوالم التي عاشها الإنسان أو عمل من أجل تحقيقها في أرض الواقع ، ليست إلا اختيارا وإمكانا حيايتا من بين إمكانات أخرى تكاد تكون لا نهائية ، و إنما تحقق بعضها بفعل تضافر شروط ،وتهيؤ ظروف ،وتيسرت  أسباب قيامها.

وغير خاف أن هذه الملكة الإبداعية للإنسان ، والتي لا تخرج عن دائرة تخيله الخلاق الكبير، إذ المخيلة هي التي تجعل من الإنسان قادرا على تقويم واقعه، والحلم بآخر أفضل وأجمل، إذ تجد من امتلك ناصية اللغة ، واستطاع  العبور من عوالم التخييل إلى تنزيلات التمثيل شعرا أو رواية ، ينجح في التعبير عن هذه الآمال أو الآلام ، كما تجد الفلاسفة أقدر الناس على التسمية والاصطلاح ، ونحت المفاهيم الكفيلة بالفهم والتفسير والتحليل والاستشراف للممكن الذي يمكن تحقيقه، ولذلك تجد لكل زمن  نساؤه ورجاله الذين يبرعون في تفكيك الواقع والعالم، باعتباره إمكانا في حكم الجواز و ليس الضرورة، بل يمكن تجاوزه.

ومن ثم فالإبداع لا ينفصل عن أصحابه الذين يرتادون ميادينه الصعبة و الخطرة، لأن الإنسان كل لا يتجزأ، ومن يتصدَّ لمهام إبداع عوالم أفضل وأجمل للإنسانية ، ينبغِ أن يكون جميلا ذا أفق جمالي يتجلى في سلوكه أولا  قبل قوله. فالاستقراء لمشاريع الحياة أو المجتمعات ، ابتداء بالإنتاجات الأكثر “تخييلية” من شعر أو مسرح أو رواية أو تمثيل، وانتهاءا إلى المدونات الأكثر عقلانية من علوم حقة أو إنسانية ، يظهر مكامن الاحتفاء بالحياة الإنسانية وكأنها بمثابة أنوار مشعة، تزيد من وضوح الرؤية والرؤيا، في منأى عن المشاريع الظلمانية التي تجعل من الموت عقيدتها، والحَجْر والضيق والعَنَت ثقافتها، فالإنسان إذا تميز وتفرد بكونه مبدعا وحرا، فلأنه مكلف ومسؤول.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *