الأقمار الاصطناعيّة الصغيرة تقود ثورة فضائيّة صامتة

الرئيسية » علم وحضارة » الأقمار الاصطناعيّة الصغيرة تقود ثورة فضائيّة صامتة

الأقمار الاصطناعيّة الصغيرة تقود ثورة فضائيّة صامتة

هناك ثورة علميّة ضخمة في علاقة الإنسان مع الفضاء الكوني، تدافعت معطياتها في السنوات القليلة الماضية، تتمثّل في ظهور الأقمار الاصطناعيّة المصغّـــرة («ميــنــيـــاتشر ساتلايتس» Miniature Satellites) وانتشارها. والأرجح أيضاً أن توصّل الهند إلى إطلاق 104 أقمار اصطناعيّة سويّة بصاروخ واحد، يصلح محطة لرسم بانوراما مدقّقة عن تلك الثورة الفضائيّة.

إذ يتوقّع أن تشهد الأعين في وقت قريب إطلاق القمر «مكعّب المطر» («رينكيوب» RainCube)، وفق تسمية اختارها علماء «مختبر الدفع النفّاث» Jet Propulsion Laboratory في باسادينا، وهو تابع لوكالة «ناسا» الأميركيّة، وترأّسه اللبناني- الأميركي تشارلز العشّي بين عامي 2001 و2016. ويندرج ضمن نوع يشار إليه باسم «كيوبسات» CubeSat. ولشدّة صغره، استعمل مهندسوه كلمة ابتكار في وصف الهوائي الذي ركّب فيه.

ربما أزف الوقت لنسيان الصورة التقليديّة عن الأقمار الاصطناعيّة، لأن أنواعها الجديدة باتت صغيرة تماماً. وهناك مئات منها تبدو كصناديق الأحذية، لكنها تدور حول الكرة الأرضيّة على ارتفاع يقارب الـ300 كيلومتر. وتجمع بيانات متواصلة عن الكوكب الأزرق ومحيطه الكوني. لا تنحصر أهميتها في صغر حجمها، بل أيضاً في تكلفتها المتواضعة، ما يساهم في تميّزها عن الأقمار الاصطناعيّة التجاريّة الكبيرة التي تدير الاتصالات الهاتفيّة ونُظُم تحديد المواقع على الأرض كـ «جي بي أس» (أميركا) و «غلوناس» (روسيا) و «غاليليو» (الاتحاد الأوروبي) وغيرها.

أساطيل الـ «نانو ساتلايت»

ومع تحوّل الـ «مينياتشر ساتلايتس» صناعة فضائيّة متكاملة، تتغير طريقة تعامل العلماء مع الفضاء. وأغلب الظن أنّ كلفتها القليلة تترجم بالقدرة على إطلاق المزيد منها باستمرار، وبناء أساطيل تؤدّي قياسات متناسقة ومتزامنة للكرة الأرضيّة، بل يتكرّر ذلك مرّات عدّة يوميّاً.

يتراوح حجم الأقمار الصغيرة التي تلقّب أيضاً بالـ «نانوساتلايت Nano Satellite، بين ما يساوي ثلاجة مطبخ كبيرة ورغيف الخبز الصغير، كما يتفاوت وزنها بين كيلوغرام و10 كيلوغرامات.

وفي العام 1999، وضع أساتذة من جامعتي «ستانفورد» و «كاليفورنيا بوليتكنيك» نموذجاً علميّاً معياريّاً للـ «نانوساتلايت». وابتكروا نظاماً لها يتضمّن وحدات قياس، فتكون الوحدة الأساس فيها هي مكعّب ضلعه 10 سنتيمترات ووزنه كيلوغرام، ويشار إليها بحرف «يو» U. ويكون كل «نانوساتلايت» على هيئة مكعب يسمّى «كيوبسات»، ويتألّف من تجميع عدد محدّد من وحدة «يو» الأساسيّة كأن يكون 1.5 «يو» أو 3 «يو» أو 6 «يو» وهلمّ جراً. ولأنه من المستطاع تركيب «كيوبسات» باستخدام مكوّنات تجاريّة متوافرة في الأسواق، فإن صنعها وتطويرها واستخدامها باتت في متناول مؤسّسات متنوّعة وجهات مختلفة، بما في ذلك طلاب الجامعات والمعاهد التقنيّة العليا.

كما أدّت زيادة فرص الحصول عليها إلى مشاركة بلدان لم تكن تشارك في اكتشاف الفضاء واستخدامه (كولومبيا وبولندا واستونيا وهنغاريا ورومانيا وباكستان…)، بل صاغت برامج وطنيّة خاصة بها في ذلك المجال.

وعند بزوغ فجرها، صُمّمت أقمار «كيوبسات» لتكون أدوات في التعليم، وأجهزة لاختبار المفاهيم التكنولوجيّة والنظريات المرتبطة بها، إضافة إلى إظهار قدرة أشياء صغيرة على تنفيذ عمليات علميّة معقدة مع قوّة صمودها طويلاً في مدارات تحيطها بيئة فضائيّة قاسية. وعلى غرار الأقمار الاصطناعيّة التقليديّة، يتوجّب على «كيوبساتس» التعامل مع ظروف الفراغ في الفضاء، وفيوض الأشعة الكونيّة، والتقلّب الكبير في درجات الحرارة، والمحافظة على سرعة عالية، وتحمّل أذى غاز الأوزون وغيرها.

التصدي للتلوث

يقود البروفسور جون فاندرلي مارتينز، وهو اختصاصي في الفيزياء من جامعة «ميريلاند»، فريقاً علميّاً يشتغل على تصميم أداة تستطيع تجهيز «كيوبسات» من نوع «هارب»، بما يجعله معدّاً لمراقبة التفاعلات بين الغيوم والأرض. وكذلك يقدر على دراسة الجزيئات الصغيرة كتلك التي تتأتى من التلوث والغبار، وملح البحر، وحبوب لقاح النباتات العالقة في الغلاف الجوي للأرض وأمثالها. وتحضَّر «هارب» لتكون أول جهاز تصوير فضائي أميركي يعتمد تقنية مبتكرة تسمّى «قياس الضوء بالاستقطاب».

وبتمويل من «مكتب تكنولوجيا علوم الأرض» في وكالة «ناسا» للفضاء، يجرى تجهيز «هارب» ليكون ضيفاً على مجموعة من أقمار «كيوبسات» التي يطوّرها حاضراً «مختبر ديناميكا الفضاء» في «جامعة يوتاه» الأميركيّة.

وفي كسر للتقليد السائد في وكالة «ناسا»، يقدّم مشروع «هارب» مقاربة مختلفة، إذ صمّمت مكوّناته كي تستجيب لشريحة معيّنة هي أرباب الأعمال، ما يعطيه بعداً استثماريّاً واضحاً.

ومن المقرر إطلاق قمر «كيوبسات» محمّلاً بالأداة «هارب» في يونيو 2017، ليلتحق بـ «محطة الفضاء الدوليّة». وبعد استراحة وجيزة، ينفصل «كيوبسات» و «هارب» عن المحطة، فيصيران قمراً اصطناعيّاً مستقلاً يتولّى جمع ما يطلب منهما من بيانات ومعلومات.

وصمّم «هارب» لدراسة تفاعل رذاذ التلوّث الجوي مع قطرات الماء وجزيئات الجليد التي تشكّل الغيوم. وترتبط تلك المكوّنات والسحب بمتغيّرات الغلاف الجوي للأرض. إذ تعتبر المكوّنات بذوراً تتجمع حولها نتف السحب التي تتنامى لتصنع غيوماً متنوّعة. وعندما يتفاعل ضوء الشمس معها، فإنه يتكسر وينتشر في اتجاهات مختلفة، وفقاً لحجم تلك البذور. ويتمثّل عمل «هارب» في تحليل طيف الضوء المتناثر في الفضاء، ما يتيح التوصّل إلى استنتاجات عن المكوّنات والسحب، وتالياً تقدير مدى التلوّث في الغيوم.

من حيث المبدأ، يملك «هارب» القدرة على جمع البيانات بصورة يوميّة، بل يغطي أرجاء العالم. وعلى رغم حجمه الصغير، يقدر على جمع كميات هائلة من البيانات بصورة لم تسبقه إليها أنواع الـ «مينتشر ساتلايتس» كلها. ويدل أيضاً على اقتراب مستقبل تنتشر فيه الأقمار الاصطناعيّة الصغيرة، كما تكون أرخص وأشد قدرة على إنجاز مهمّات علميّة معقدّة ومتطوّرة.

أحمد شعلان – الحياة

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *