الأصول النظرية لمفهوم الدولة المدنية - 2

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » الأصول النظرية لمفهوم الدولة المدنية – 2

لعل أهم مصدر تأصيلي حديث لمفهوم الدولة المدنية في صلتها القوية بمفهومي “الحكم المدني”، و”المجتمع المدني”، كتاب “جون لوك”؛ “في الحكم المدني”. ولذلك كان لزاما العودة إليه لاستجلاء معالم مفهوم الدولة المدنية الذي حاولنا مقاربته في الحلقة الأخيرة.

يميز “جون لوك” بين “المجتمع المنزلي” الذي يتشكل من أفراد الأسرة والعبيد، وسلطة الأب، و”المجتمع السياسي أو المدني” مماهيا بينهما، معتبرا أن المقصد من المجتمع الأول يتمثل في “التناسل وتوفير أسباب المعاش للأولاد، حتى يبلغوا أشدهم، فهو مجتمع طبيعي، أما المجتمع المدني فهو مجتمع اختياري، غرضه المحافظة على حياة المرء وحريته الطبيعية وأملاكه ودفع عدوان الآخرين عنه.

 وإذ يلتحق به الفرد يتنازل عن حقه الطبيعي بتنفيذ القانون الطبيعي والاقتصاص من المعتدين عليه للجماعة، فتصبح هذه الجماعة، إذ ذاك، الحكم الوحيد في الخصومات التي تنشأ بينه وبين أقرانه، لها وحدها صلاحية تنفيذ القانون وإنزال العقوبات بالمجرمين، وعن هذه السلطة العامة التي تكتسبها الجماعة، بتنازل أبنائها عن حقوقهم الفردية في تأويل القانون الطبيعي وتطبيق أحكامه، تتفرغ السلطتان الأساسيتان في الدولة: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية”.( جون لوك، “في الحكم المدني”، ترجمة، ماجد فخري، بيروت، 1959، ص (ح) من المقدمة.)

فليس من مجتمع سياسي إلا حيث يتنازل كل فرد عن هذا الحق الطبيعي للجماعة، تنازلا تاما، شريطة أن لا يحال بينه وبين اللجوء إلى القانون الذي تقره تلك الجماعة. وإذ يبطل الحكم الفردي على كل فرد، تصبح الجماعة الحكم الوحيد الذي يفصل في كل الخصومات التي قد تنشأ بين أفراد ذلك المجتمع في القضايا الحقوقية، بناء على قواعد عادلة  يطبقها رجال خولتهم الجماعة تطبيقها، وتنزل بالفرد الذي قد يرتكب جرائم ضد المجتمع العقوبات التي أقرها القانون (ص188).

فما ينشىء المجتمع السياسي ويكونه، وفقا “لجون لوك”، إن هو إلا “اتفاق فئة من الناس الأحرار، الذين يؤلفون أكثرية، على الاتحاد وتأليف مثل هذا المجتمع. وعلى هذا الوجه فقط نشأت وتنشأ كل حكومة شرعية في العالم”(ص197).

إذ “عندما خلق الله الإنسان فرض عليه ظروفا قاهرة؛ من الضرورة والمنفعة والرغبة ألجأته إلى حياة الاجتماع، لعلمه أنه مخلوق لا يصلح لحياة العزلة، وجهزه بالإدراك والنطق كي يستمر عليها وينعم بها”(ص183).

إن المعيار المحدد للدولة المدنية، من وجهة نظر جون لوك، يتمثل في كونها دولة حق وعدالة وقانون؛ ذلك أن “كل الذين يؤلفون جماعة واحدة، ويعيشون في ظل قانون ثابت وقضاء عادل، يلوذون بهما وبوسعهما البت في الخصومات التي تنشأ بينهم ومعاقبة المجرم منهم، فإنما يعيشون معا في مجتمع مدني. أما الذين لا ملاذ عام لهم على الأرض، فهم ما يزالون في “الحالة الطبيعية”، لأن كلا منهم الحكم والجلاد في كل ما يعنيه من شؤون”.

 ولكي ندرك طبيعة السلطة السياسية إدراكا صحيحا، ونستنبطها من مصدرها الأصلي يدعونا “جون لوك” أن “نفحص عن الوضع الطبيعي الذي نجد البشر عليه: وهو وضع من الحرية التامة في القيام بأعمالهم والتصرف بأملاكهم وبذواتهم كما يرتأون، ضمن إطار سنة الطبيعة وحدها، ودون أن يحتاجوا إلى إذن أحد أو يتقيدوا بمشيئة أي إنسان. وهو وضع من المساواة أيضا؛ حيث تتكافأ السلطة والسيادة كل التكافؤ: فلا يكون حظ أحد منهما أكثر من حظ الآخر”(ص140).

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *