آفة التسلط

الرئيسية » الأعمدة » حروف » آفة التسلط

 تنزع النفس الإنسانية بطبيعتها إلى نظرة الكمال في ذاتها ولا تقبل بأي حال أن ترقب مواطن العيب والخلل فيها، فهي تجتهد على الدوام في أن توهم الغير والذات بكونها على النهج القويم، وذلك لأن اتهام الذات ومساءلتها ومحاسبتها عمل شاق ومضن يتطلب شجاعة تتغلب على حيل التبربر والتدليس التي قد تزيد الأمور تلبيسا وتعقيدا يخفي الحقائق؛ تلك الحقائق التي يتمكن المرء من خلالها الإمساك بخيوط الداء التي كلما تشابكت زادت التفافا و ازداد صاحبها محاصرة ، بحيث لا يستطيع الانفكاك عنها والتحرر من براثينها.

ولذلك كان التسلط شهوة تغرق أسيرها في الفردانية و طلب امتداح الذات بما فيها وليس فيها، ويجعل منها مركزا يستتبع الغير ولا يؤمن بوجوده وكينونته واختلافه ومن ثم حريته، والمعتبر بتاريخ الأمم يرى كيف أن هذه التسلطات لم تفض إلا لأنواع التطرف التي انتهت بالإنسان إلى المآسي والويلات.

إن ادعاء ملكية الحقيقة والانفراد بأحقية التصرف بمقتضاها يخرج بالإنسان من طبيعته البشرية ويدرجه في سجل آخر لا يبث إلى النسبية التي يتميز بها الخلق الإنساني بصلة، إذ إن مثل هذه الرؤى المتسلطة لا ترى في الغير إلا مجرد أدوات وآلات بدون روح .

 وتاريخ الإنسان الطويل في بحثه عن آدميته وسر كينونته شاهد على معاناته في تطويق ومحاصرة الامتداد التسلطي بكل أشكاله، إن على مستوى التشريعات والقوانين التي تكفل الحقوق وتحدد الواجبات، أو من خلال المنظورات الأخلاقية  والقيمية التي أفرغت جهدها في الدراية بأعماق السلوكات وبواعثها ومعرفة طبائعها والسبل الكفيلة بمداواتها وعلاجها بقصد بلوغ الصيغة المجتمعية الأكثر إنسانية والتي تقطع مع الأنانيات المتغطرسة وتؤسس للبناءات الجماعية التي يشكل فيها كل فرد أيا كان وكيفما كان وجودا حيويا ويضيف معنى قائما بذاته لا يقوم به غيره.

 فشتان إذن بين أن يدعي المرء قيما من مثل الحوار والقبول بالاختلاف والتنوع والتعدد وغيرها من المعاني التي باتت تشكل مفاتيح كبرى لولوج عالم التحضر الإنساني وبين اختبارها في ميادين التدافع الواقعي الذي يعتبر بحق معيار الحكم على مدى مطابقة القول للفعل.

فإذا كان التسلط آفة لا يقبل إلا بأشباه بشر ليسوا إلا عبارة عن نسخ متطابقة لأصل ما…، فإن الناموس الكوني يحكم عليه بالضمور والأفول والاندثار ومن ثم الانقراض، فالدوام والاستمرارية في مراعاة سر الخلق المتنوع الذي يقتدر بذكائه الفطري وجبلته الإدراكية والإبداعية على التبدل والتغير والتكيف مع  مقتضيات الحياة المتجددة والتي لا تقبل التكرار والاجترار.

شارك:

2 الأفكار حول “ آفة التسلط

  1. |imane douabi

     أتساءل كيف يصبح الإنسان، وهو المتميز بأعلى مستوى من الذكاء، أغبى كائن حي على وجه هذه البسيطة. كما لا أفهم كيف يجود رب العزة بفضائله على الإنسان الذي يقابل ذلك إلا بالزيادة في حب الذات وتتبع شهوة التسلط؟ إن التسلط بالفعل آفة تخرب الذات والمجتمعات…فكيف السبيل؟

    • بسم الله الرحمن الرحيم

      نشكرك دكتور غازي على هذا الموضوع
      المتميز حيث نجد تلك الآفة غزت مجتمعنا، ولا ندري ما السبب، هل هي التربية الخاطئة
      التي تعرضت لها في طفولتها؟ أم أنها لم تتعلم النمط التربوي المتسامح والدافئ
      والمتعاطف، بحيث نجدها ربيت على القسوة والعنف.

      لعل القراء
      هنا وعبر مقالكم يدركون أن النمط المتمثل في الشخصية المتسلطة هو من الأنماط
      المريضة التي أوجدتها ظروف أسرية وبيئية سيئة. ومن الواضح أن الشخصية المتسلطة هي
      في الواقع ضحية ظروف أسرية واجتماعية غير ملائمة.

      ونجد ربما من وجهة نظري أن التسلط
      يمكنه أن يعيش معنا في محيطنا العائلي، وذلك لتسلط الأب على زوجته وأبنائه،  ففي المنزل
      يشهد بعض الأبناء تسلط أبائهم بشكل مبالغ حيث يلغي شخصيتهم تماما مما يجعلهم
      يعيشون بشخصيات معدومة، في حين نجد تسلط من نوع آخر وهو تسلط الأخ على أخيه، من
      خلال إلغاء شخصيته وجعله خادماً له محققاً لرغباته بدون أدنى تذمر أو تساؤل مما
      يجعل ذلك الطفل ذا شخصية معدومة ومهزوزة تبقى معه طول حياته وتؤثر عليه التأثير
      السلبي دائماً حتى إذا كبر فإنه يشعر بأنه إنسان لا قيمة له بالحياة وربما يتمنى
      أنه لم يوجد بهذه الحياة،

      لكن الغريب في الأمر أن هناك
      من يخلط الأمور بين الشخصية المتسلطة، والشخصية القوية لذا يجب علينا التمييز بين
      تلك الشخصيتين فالفرق بينهما شاسع وكبير، فالشخصية المتسلطة شخصية غير مرنة وضعيفة في
      أعماقها تتستر خلف جمودها وسلطويتها من أجل قمع الآخرين وعدم إظهار ضعفها، إنها
      شخصية عاجزة عن النقاش المرن والديمقراطي وعاجزة عن تقبل الآخرين وتقبل الحقائق
      كما هي. إنها تعيش في قوقعة تحمي نفسها منها. وتحمل في خصائصها سمات مرضية،
      وعلاجها صعب لأن اضطرابات الشخصية بشكل عام عبارة عن اضطرابات لا يشعر معها صاحبها
      بأنها غريبة عنه، إنها جزء من سماته، وبالتالي فإن العلاج لهذه الحالات مختلف عن
      علاج الأشكال الأخرى من الاضطرابات النفسية المعروفة.

      أما الشخصية القوية هي الشخصية
      الواثقة من نفسها التي تحمل الصفات الحميدة وتتعامل مع الأحداث والناس بمرونة
      واضحة، قادرة على تقبل آراء الآخرين وطرح وجهة نظرها وتناقشها من حيث منطقيتها
      وفائدتها وقادرة على تقبل الآخرين حتى وإن كانوا مختلفين عنها، وتتقبل أن لكل
      إنسان طريقاً يختاره. الشخص الذي يتمتع بشخصية قوية قادر على قيادة الناس بالإقناع
      وليس بالقهر والقوة. الشخصية القوية ليست بحاجة لإخفاء ضعفها من خلال تسلطها. إنها
      تحترم إمكانات الآخرين وتفسح لهم المجال للإبداع والإنجاز وإن فشلوا فهي لا تبخسهم
      حقهم وإنما تحثهم وتشجعهم على الإنجاز والمحاولة مرة أخرى. وتتخذ القرار بعد دراسة
      واقعية.

اترك رداً على Rayane Badre إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *