مثل العام 1969 عاما استثنائيا في تاريخ البشرية، وشكل نقطة محورية في الثقافة والعلوم والتكنولوجيا. وفي الـ30 من يناير قدم فريق البيتلز عرضهم الأخير. وفي الـ20 من يوليو تابع العالم برهبة نيل أرمسترونغ يصل إلى القمر برفقة بز ألدرين ليكون أول إنسان يمشي على سطح القمر. وبعد أقل من شهر تجمّع ما يقرب من نصف مليون من محبي الموسيقى في حقل موحل بالقرب من وودستوك، نيويورك، لحضور ما أطلق عليه فريق رولينج ستون “أعظم مهرجان لموسيقى الروك”.
ولادة الإنترنت
لكن، يبقى الحدث الأبرز والأكثر تأثيرا على الأجيال القادمة، خلال عام 1969، هو قيام فريق من طلاب الدراسات العليا في جامعة كاليفورنيا بتشبيك جهاز كمبيوتر إلى جهاز آخر مع فريق في معهد ستانفورد للأبحاث يوم 29 أكتوبر. ليتم بذلك أول اتصال من مضيف إلى مضيف، ومقدمة لولادة للإنترنت، التي تضم اليوم المليارات من المبحرين.
ومع ذلك، عبّر الرواد الأوائل عن قلقهم من أن ما صُمّم لإضفاء الطابع الديمقراطي على الجمهور، أوجد “صيغة مثالية للجانب المظلم”. ويعتقد هؤلاء أن الصوت المعتدل يهمش على الإنترنت، في حين يجري تضخيم وجهات النظر المتطرفة، ما يوفر منصة دائمة للتعبير عن الكراهية والتضليل وإساءة الاستخدام.
وفي 29 أكتوبر عام 1969، نقل الطالبان تشارلي كلاين من جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلس، وبيل دوفال من معهد ستانفورد للأبحاث، كلمة “تسجيل الدخول” عبر شبكة، تمولها وكالة مشاريع البحوث المتقدمة “آربا”. وتمثلت الفكرة في إرسال رسالة من لوس أنجلس إلى ستانفورد، عبر شبكة ARPA، المعروفة باسم “آربانيت”.
وحاول كلاين نقل كلمة “تسجيل الدخول” (login) إلى دوفال، ولكنه تمكن من إرسال “lo” فقط قبل تعطل النظام. وفي المحاولة الثانية، أُرسلت الرسالة كاملة إلى الكمبيوتر في ستانفورد. وأوقف تشغيل “آربانيت” في عام 1990، ولكنه وضع الأساس لما يمكن أن يتطور ليصبح الإنترنت التي نستخدمها اليوم.
وعلى الرغم من أن كلاين ودوفال احتفلا بإرسال الرسالة الأولى عبر اتصال بشبكة أولية، إلا أن هناك روادا مؤسسين يأتون قبلهما. فقد سبقهما بوب تايلور، وهو شخصية رئيسية في تاريخ الحوسبة، في “آربا” أشرف على إنشاء شبكة كمبيوتر واحدة لربط الباحثين، الذين ترعاهم الوكالة، في الشركات مع المؤسسات حول العالم.
وفي الوقت نفسه، قام ليونارد كلاينروك، وهو أستاذ في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلس (UCLA) بتطوير النظرية الرياضية وراء تبديل الرزم، وبعث أول رسالة بين جهازي كمبيوتر، على شبكة بدائية.
ومع احتفال الجامعة بالذكرى السنوية، افتتح البروفيسور ليوناردو كلاينروك مختبرا جديدا يركز فقط على جميع الأمور المتعلقة بالإنترنت. ويُكرّس بشكل خاص لتحليل ودراسة العواقب غير المقصودة على الإنترنت.
ماذا بعد 50 عاما؟
إحياء لنفس الذكرى، سأل مركز بيو للأبحاث المئات من خبراء التكنولوجيا، بمن فيهم كلاينروك وزملاؤه رواد الإنترنت الأوائل، كيف يمكن أن تتأثر حياة الأفراد بتطور الإنترنت على مدار الخمسين عاما القادمة؟ استجاب 530 من أقطاب التكنولوجيا والمطورين وقادة الأعمال والسياسة والباحثين والناشطين للاستجواب.
و”بيو” هو مركز أبحاث أميركي غير حكومي (يشير إلى نفسه على أنه “مركز حقائق”) مقره واشنطن العاصمة. يوفر معلومات حول القضايا الاجتماعية والرأي العام والاتجاهات الديموغرافية التي تشكل الولايات المتحدة والعالم. كما يجري المركز استطلاعات للرأي العام، والبحوث الديموغرافية، وتحليل محتوى وسائل الإعلام وغيرها من بحوث العلوم الاجتماعية التجريبية.
طلب المركز من المشاركين التفكير في الخمسين سنة القادمة؛ أين ستكون الإنترنت والحياة الرقمية بعد نصف قرن من الآن؟ وكيف سيتم دمج التكنولوجيا والأنظمة الأساسية والتطبيقات المتصلة في حياة الناس؟
ترك للمشاركين الخيار لمعالجة أي بُعد يرون أنه الأهم، مثل: ما التغييرات المتوقعة في شركات المنصات في العالم الرقمي؟ وما هي التغييرات التي ستحدث في التطبيقات؟ وما هي الميزات التي ستوفرها على الإنترنت؟ وكيف سيتم دمج الأدوات الرقمية في الحياة اليومية؟ وأخيرا كيف ستتأثر حياة الأفراد بالتغييرات المتوقعة؟
اللافت للانتباه أن حوالي 72 في المئة ممن استجابوا للمسح، كانوا متفائلين، واعتبروا أن التغيير سيكون للأفضل، بينما المتشائمون الذين رأوا أن الأمور ستتجه للأسوأ كانت نسبتهم 25 في المئة، و3 في المئة فقط قالوا إنه لن يكون هناك أي تغيير يذكر.
وأعرب المتفائلون عن أملهم في أن تؤدي التطورات الرقمية في الخمسين عاما القادمة إلى إطالة العمر، وزيادة الرفاهية، وتوزيع أكثر إنصافا للثروة والسلطة، وفي الوقت نفسه، تضمنت جميع التنبؤات المكتوبة لهؤلاء الخبراء تقريبا تحذيرات حول احتمالات زيادة المراقبة وممارسات إساءة استخدام البيانات من قبل الشركات والحكومات، والأمن غير القابل للاختراق للأنظمة المتصلة رقميا، واحتمال زيادة عدم المساواة الاقتصادية والفجوات الرقمية ما لم يتم التوصل إلى حلول للسياسات التي تنظم استخدام الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية.
خيارات صحيحة
باختصار، يجادل هؤلاء الخبراء بأن المستقبل بيد الأفراد وبالقرارات التي سيتخذونها ويتفقون عليها. إريك برينجولفسون، مدير مبادرة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حول الاقتصاد الرقمي ومؤلف كتاب “الآلة، المنصة، الجمهور: توظيف مستقبلنا الرقمي” من بين الخبراء الذين يرون أن الخيارات التي تتخذ اليوم ستحدد ما إذا كان المستقبل جيدا أم لا، قائلا “لا أعتقد أن الطرح الصحيح هو، هل ستكون النتيجة جيدة أم سيئة؟ بل ما يجب أن تكونه. كيف سنشكل النتيجة، بينما لم يتفق على تحديدها بعد؟ آمل أن تتخذ الخيارات الصحيحة، وهذا سيحدث فقط إن أدركنا أن النتائج الإيجابية ليست حتمية على الإطلاق”.
الرأي نفسه، تقريبا، ردده آخرون ومنهم ديفيد براي، المدير التنفيذي لائتلاف الإنترنت، الذي تنبأ بحدوث سلسلة من الاضطرابات في أسلوب حياتنا الحالي وما إذا كنا، كبشر، سنتعامل معها بطريقة تضمن مصلحة الجميع.
يقول براي، إن ما نراه اليوم، هو زيادة القدرة على تحمل التكاليف وتوافر التقنيات التي كانت متاحة فقط للدول الكبيرة قبل 20 عاما. حيث يتفوق القطاع التجاري الآن على التطور التكنولوجي للدول، مما يعني أن الشركات يمكن أن تمتلك تقنيات متقدمة يمكن استخدامها في الخير والشر، وهذا قد يؤثر بشكل كبير على الأحداث العالمية.
إستر دايسون، رائدة الأعمال وصحافية سابقة، رأت أن الإنترنت قوية جدا، لدرجة أنها أعطتنا الفرصة لإشباع العديد من رغباتنا الآنية بينما ما نحتاجه هو أن نتعلم “كيفية التفكير على المدى الطويل. ما قمنا به حتى الآن عمل سيء في الغالب؛ الأفراد مدمنون على الملذات قصيرة المدى، والبحث عن العلاقات العابرة بدلا من بناء الصداقات (والزواج). الشركات تبحث عن طرق لزيادة الأرباح الفصلية، واستقطاب الكفاءات الكبيرة، بدلا من الاستثمار في تطوير موظفيها. المنظمات غير الربحية مهتمة بإدارة البرامج بدلا من بناء المؤسسات. والسياسيون يبحثون عن الأصوات والسلطة”.
وتتساءل دايسون “هل لدينا الحكمة لتثقيف الجيل القادم ليقوم بعمل أفضل على الرغم من مثالنا السيء؟”.
وعلقت سوزان إيتلينجر، المحللة الصناعية والخبيرة في البيانات والتحليلات والإستراتيجية الرقمية، قائلة “في غضون 50 عاما، سيصبح ما نعرفه على الإنترنت قديما إلى حد كبير. بدلا من تنظيم المعلومات في شكل عناوين URL وتطبيقات ومواقع ويب، ستكون تفاعلاتنا الرقمية شفاهية ولمسية مضمنة في العالم الذي نعيش فيه، حتى في أنفسنا. ونتيجة لذلك، فإن التمييز بين العالم المادي والرقمي سوف يتلاشى إلى حد كبير”.
ومع ذلك، فإن كل هذه الابتكارات لن تعني الكثير إذا لم يتم تطبيق الخوارزميات والتكنولوجيا المستخدمة لتطويرها بنفس الاهتمام بالعواقب البشرية كما هو الحال للابتكار. هذا صحيح أيضا في التعليم والرعاية الصحية ونظامنا المالي والسياسة، وفي الحقيقة كل نظام يستخدم البيانات لتوليد تنبؤات حول العالم والمستقبل. لا بد أن نغتنم الفرصة التي توفرها لنا التقنيات الذكية، لرؤية وفهم تحيزاتنا بشكل أفضل حتى نتمكن من تحسين العالم الذي نريده. القرارات التي نتخذها الآن ستشكل سابقة في ما إذا كنا قادرين على استخدام التقنيات الذكية بشكل عادل وأخلاقي.
ستساعد التكنولوجيا التي تدعم الإنترنت الناس على العيش حياة أطول وأكثر صحة. وسيستمر التقدم العلمي في طمس الخط الفاصل بين الإنسان والآلة.
ووفق أندرو توت، الخبير في القانون ومؤلف كتاب “إدارة الغذاء والدواء للخوارزميات” فإن عصر الأتمتة “سيحدث ثورة في العالم وسيؤدي إلى تغييرات رائدة في النقل والصناعة والاتصالات والتعليم والطاقة والرعاية الصحية والاتصالات، والترفيه والحكومة والحرب وحتى البحث الأساسي”.
أتمتة الحياة
من المحتمل أن تشهد قدرتنا تحسنا بشكل كبير على التعامل مع المعاناة، العاطفية والجسدية، من بين أقل الإنجازات التي نحققها. ستقطع الروبوتات الوجدانية شوطا طويلا في مساعدة الناس على التغلب على مشاعر الوحدة، وقد تساعدنا أيضا على أن نكون أكثر أخلاقية.
وهناك إجماع على أن الأدوات التي يقودها الذكاء الاصطناعي ستتولى العمل المتكرر وغير الآمن والمرهق جسديا، مما يترك للبشر مزيدا من الوقت للتمتع بأوقات الفراغ.
وحول هذا كتب بنيامين كويبرز، أستاذ علوم الكمبيوتر في جامعة ميتشغان “إن الأدوات التكنولوجية، الرقمية غالبا، التي نبتكرها تبشر بزيادة الموارد المتاحة في المجتمع بشكل كبير. في حين أنه قد يكون من الممكن أتمتة بعض الوظائف الحالية، إلا أن الناس لديهم حاجة جوهرية لعمل هادف. إذا تمكنا من استخدام هذه الموارد الجديدة لدعمهم، فيمكن إنشاء العديد من الوظائف لتوفير عمل هادف للعديد من الأشخاص ولتحسين البيئة للجميع في المجتمع”.
وقال كين غولدبرغ، رئيس قسم الهندسة في جامعة كاليفورنيا، “أعتقد أن السؤال الذي نواجهه ليس متى ستتفوق الآلات على الذكاء البشري؟ ولكن بدلا من ذلك، كيف يمكن للبشر العمل جنبا إلى جنب مع الآلات بطرق جديدة؟ دعنا نركز على التعددية، حيث يمكن أن تلهمنا التطورات في الذكاء الاصطناعي والروبوتات للتفكير بعمق في نوع العمل الذي نريده حقا للقيام بذلك، وكيف يمكننا تغيير الطريقة التي نتعلم بها وكيف يمكننا احتضان التنوع لإنشاء عدد لا يحصى من الشراكات الجديدة”.
وحسب مايكل فولوسكي، الأستاذ المشارك في علوم الكمبيوتر وهندسة البرمجيات في معهد روز هولمان للتكنولوجيا، “ستتم أتمتة معظم حياتنا، ولكننا لن نفقد السيطرة، بل سنتحكم في درجة الأتمتة. سوف تتولى التكنولوجيا دور المساعد الشخصي المؤدب الذي سينحني ويخرج بسلاسة. ستعمل التكنولوجيا القائمة على أنماط السلوك المكتسبة على ترتيب أشياء كثيرة في حياتنا وتقترح خيارات إضافية”.
وعلق مايك ماير، المستقبلي والمسؤول في كلية المجتمع في هونولولو، قائلا “إن التكنولوجيا ستصبح جزءا من أجسامنا وستشكل طبيعة مجتمعاتنا ذاتها. ستكون النتيجة الطبيعية هي تجانس الأنواع. ستصبح طبيعة الكوكب في الغالب حضرية مع الاتصال الفوري المستمر. نحن بالفعل على الطريق الصحيح نحو ثقافة الكوكب. وقد يؤدي هذا، في النهاية، إلى القضاء على مشكلة التعصب والعنصرية وكراهية الأجانب”.
صحيفة العرب