«عقول المستقبل» تحقّق إنسانيّتها إذا تخلّصت من الشاشات

الرئيسية » تربية وتكوين » «عقول المستقبل» تحقّق إنسانيّتها إذا تخلّصت من الشاشات

«عقول المستقبل» تحقّق إنسانيّتها إذا تخلّصت من الشاشات

بات الخليوي والكومبيوتر والتابلت وغيرها من الأجهزة الرقميّة الذكيّة، ملمحاً رئيساً في الحياة اليوميّة لناس الأزمنة المعاصرة على امتداد الأرض، إذ صارت جزءاً مكيناً من المنازل والمكاتب والمدارس. وبالأرقام، يقضي الأطفال (دون عمر الـ5 سنوات) ما معدّله ست ساعات يومياً أمام أحد أنواع الشاشات الذكيّة، وربما يصرف المراهقون والكبار أمامها ساعات أطول. جاءت تلك المعطيات ضمن كتاب «عقول المستقبل: كيف يغير العصر الرقمي عقولنا، ولماذا نكترث، وما الذي في وسعنا فعله»؟ ووضع الكتاب ريتشارد واطسون، وصدر أخيراً عن «المركز القومي المصري للترجمة»، بترجمة الزميل محمد عبدالحميد دابوه ومراجعة الزميل أيمن عامر.

وأورد الكتاب أنّه في الولايات المتحدة في العام 2009، أمضى الكبار متصلين بشبكة الإنترنت ضعفي عدد الساعات التي كانوا يقضونها في 2005. وفي أوروبا، ازداد وقت الاتّصال بالإنترنت لدى البالغين بمقدار الثلث تقريباً خلال تلك الفترة نفسها. وفي المملكة المتحدة تقضي النساء العاملات نصف وقت فراغهن تقريباً في متابعة الإنترنت، بل يقضي الناس عامة قرابة 45 في المئــة من ساعات اليقظة أمام وسائل الإعـــلام والاتّصال. في مقابل ذلك؛ في العام 2010، تبيَّن أنّ الأميركيّين الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و18 سنة يقضون في المتوسط 11 ساعة يومياً أمام شاشة أو شاشتين في وقتٍ واحد، ما يعتبر قفزة كبرى مقارنة بأزمنة قريبة سابقة.

ولاحظ كتاب «عقول المستقبل…» أن الناس باتوا يتواصلون في شكل متزايد عبر الرسائل النصيّة والبريد الإلكتروني، بمعدل يفوق كثيراً التواصل المباشر وجهاً لوجه. ويلفت إلى أنّ معظم الجمهور لديه مئات الأصدقاء على الإنترنت، لكنه ربما لا يعرف جيرانه القاطنين بجواره. ولاحظ تبدّلاً في العلاقة مع المعرفة ربما يكثّفها أن يكون محرك البحث «غوغل» هو أول مكان للبحث عن المعلومات، وليس الكتب والأصدقاء والعائلة والمدرّسين وسواهم. ويرى أيضاً أنّه يترتب على ذلك الانتشار التكنولوجي الواسع حدوث تحولات جوهرية في المواقف والسلوك، وهي أمور يسعى الكتاب لاستكشافها، بل يكرّس جلّ صفحاته لها. إذ يحتوي الكتاب نقاشات واسعة عن الطُرُق التي تغيّر بها الحقبة الرقميّة عقولنا، راصداً منعرجات الحاضر ليتوقّع ما ربما يحمله المستقبل. ويصرّ أيضاً على طرح سؤال أساسي: هل يمكن لشيء يبدو بريئاً كالهاتف الذكي أو محرك البحث «غوغل»، أن يغيّر فعليّاً طريقة تصرّف الناس وتفكيرهم؟ ويشدّد على أن ذلك السؤال يشغل عقول عدد من العلماء البارزين، خصوصاً من يدرسون سيكولوجيا العقل، لأنه يتضمن فكرة مفادها أن العصر الرقمي ربما يغير عقولنا.

وكذلك يلفت إلى أنّ الحقبة الرقميّة تعمل على تقليص قدرة الناس على التركيز، وتؤثر سلباً في أساليب التفكير وآليّات اتخاذ القرار، فكأن الأجهزة الرقميّة تحول البشر إلى مجتمع من الأذهان المشتّتة. وإذا كان ممكناً استدعاء المعلومات بمجرد النقر على الفأرة الإلكترونيّة، فلماذا يحفل المرء بتعلم شيء جديد؟ ثمة صورة ترتسم في الكتاب عن مجتمعات بشريّة شبه مهووسة بـ «غوغل»، بل تسير أيام أفرادها من دون التفكير بعمق في ما يفعلوه أو إلى المسارات التي تتجه إليه مصائرهم وعلاقاتهم التي تتفتت تحت وطأة التقدّم التقني بصورة متصاعدة.

ويقدّم كتاب «عقول المستقبل» خلاصة قاتمة مفاده أن البشر متواصلون كونيّاً، لكن علاقتهم الاجتماعية أصبحت ضحلة وهشّة وسريعة الزوال. ويفتح ذلك آفاقاً أمام ظهور مجتمع متواصل ومتعاون كونياً، لكنه مستنفد الصبر، ومنعزل عن الواقع. استطرداً، يبدو ذلك المجتمع كأنه يعيش وفرة في الإجابات، لكنه لا يملك سوى حفنة ضئيلة تماماً من الأسئلة الأصيلة. ويعني ذلك أنّه مجتمع قوامه أفراد غير قادرين على التفكير لأنفسهم بأنفسهم في ما يتصل بالعالم الذي يعيشوه فعليّاً.

وغالباً ما شبّه كثيرون من النقّاد ريتشارد واطسون، وهو مؤلّف «عقول المستقبل»، بكاتب الخيال العلمي الشهير جولز فيرن (1828- 1905) الذي وضع مؤلّفات باتت مراجع كلاسيكيّة في ذلك الأدب كـ «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» و «من الأرض إلى القمر» و «رحلة إلى قلب الأرض» و «حول العالم في ثمانين يوماً» و «تمرّد على متن السفينة باونتي» وغيرها. وفي المقابل، اعتبره نقّاد آخرون أنّه شبيه بكاتب الخيال العلمي المعاصر مالكوم غلادويل (مواليد بريطانيا، 1963)، في ملمح هو محاولة توقّع النتائج غير المتوقّعة للتقدّم العلمي والتقني.

الحياة

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *