شهدت الفترة الماضية جدلا كبيرا حول مخاطر الهواتف الذكية وأثرها على الصحة العقلية والجسدية. ولم تنفع الدراسات التي جاءت متناقضة أحيانا في تهدئة المخاوف. ولكن هناك من يرى أن هذا الجدل عقيم وأن هذه التكنولوجيا ستصبح مهملة وقديمة بحلول 2021.. فمن نصدق؟
الهواتف الذكية أحدثت ثورة في حياتنا، وقلبت رأسا على عقب المفاهيم والأفكار، هذا أمر لا شك فيه. خلال عقدين من الزمن استطاعت أن تهيمن على حياتنا هيمنة مطلقة. بسببها تخلى أكثرنا عن ساعة اليد، واختفت الكاميرا من حياتنا، حتى بطاقات الشراء كادت أن تختفي في بعض المدن؛ ويتوقع لها الاختفاء كلية خلال أقل من عشر سنوات.
ترقب دائم
أصبح الهاتف الذكي وسيلتنا لإدارة الأعمال والتعاملات المصرفية، وطبيبنا الخاص الذي نستشيره، ووسيلتنا للبحث عن المعلومات، وطلب التاكسي والتسوق، وهو أيضا مساعد إلكتروني، بسببه استغنى البعض عن السكرتيرة.
إنه حقا ابتكار مذهل. ولكن، ماذا عن أضراره؟
لا نتساءل عن المخاوف الأمنية التي يثيرها استخدام الهاتف الذكي، ولا نتحدث أيضا عن الحكومات والشركات الكبرى التي تحولت إلى “أخ أكبر” يراقب حركاتنا على مدار 24 ساعة يوميا. فهذه مخاوف تم الحديث عنها، وهي مخاوف مشروعة تستحق بذل الجهد للتغلب عليها. هناك مخاوف أخرى تطال حياتنا، تتعلق بالجانب الصحي الفيزيولوجي، جرى الحديث عن بعضها، ولكن لم يتوقف الناس عندها طويلا، فالفوائد التي تجنى من الهاتف الذكي، حسب رأيهم، أكبر بكثير من أن تجعلهم يفكرون ولو للحظة بالاستغناء عن خدماته.
هناك أشخاص لا يستطيعون تقريبا البقاء أكثر من دقائق معدودة دون النظر لشاشة هواتفهم، في ترقب دائم لرسالة من شخص ما، أو التحقق من حالة الأصدقاء ومنشوراتهم على شبكات التواصل الاجتماعي. وهي تصرفات يعتبرها البعض غير اجتماعية، حظيت باهتمام كبير في الأشهر القليلة الماضية، وقادت المستثمرين والمستهلكين، على حد السواء، لمطالبة عمالقة التكنولوجيا بمعالجة هذه المشكلة.
ويرى علماء الاجتماع أن “الرغبة في مشاهدة ومراقبة الآخرين، وأيضا أن نُرى ونُلاحظ من قبل الآخرين، تمتد عميقا في ماضينا التطوري، فقد تطور البشر على مر التاريخ ليُكونوا نوعا اجتماعيا فريدا، يتطلب تفاعلا مستمرا مع الآخرين للحصول على دليل للسلوك المناسب ثقافيا”. ووجد الباحثون أن وظائف الهواتف الذكية الأكثر إدمانا كانت جميعها مشتركة في موضوع واحد: استغلال الرغبة البشرية في التواصل مع الآخرين.
وفي المجتمعات التي تلت الثورات الصناعية، حيث الطعام متوفرٌ بسهولة، خرجت شهيتنا تجاه السكريات والدهون عن السيطرة. وإذا كانت الحاجة البيولوجية هي التي تقودنا للاستهلاك المجنون للسكريات والدهون، فإن الضغوط الاجتماعية لها نفس التأثير على استعمالنا للهواتف الذكية وهي قد تؤدي في نهاية المطاف لخروج الأمور عن السيطرة.
يمكن أن يؤدي إيقاف تشغيل زِر الإشعارات وتخصيص أوقات مناسبة للتحقق من هاتفك إلى المُضي قدما على طريق طويل لاستعادة السيطرة على إدمان الهواتف الذكية. ومن المخاوف التي ذكرت، ورغم خطورتها لم نكترث لها، تأثير الهاتف الذكي على الدماغ، والقدرات العقلية بما فيها الذاكرة، فاستعماله يؤثر على عملية حفظ المعلومات التي تخزن بشكل مؤقت في الدماغ.
عندما يدرك الشخص أنه قادر على الوصول إلى المعلومات بحريّة وسهولة من مصادر معينة مثل الإنترنت يبدأ دماغه بحفظ الحقائق والبيانات بشكل أسوأ، والأطفال الذين يستخدمون الهواتف الذكية بشكل مفرط لوحظ لديهم تباطؤ في ردود الأفعال تجاه التأثيرات الضوئية والصوتية، وكذلك ازدياد في الأخطاء الإملائية عند الكتابة وضعف في الانتباه والتركيز.
مخاطر غامضة
أما المراهقون الذين يستخدمون الهواتف لإجراء المكالمات الهاتفية لفترات طويلة ويضعون الهواتف على آذانهم، وخصوصا الأذن اليمنى، فلوحظت لديهم مشكلات في تذكر الأشكال المجردة.
ولم يعد استخدام الهاتف الذكي مرتبطا بفئة عمرية محددة؛ معظم الأطفال بعمر سبع سنوات (53 في المئة)، يمتلكون هاتفا محمولا، وأشار التقرير الذي استند إلى دراسة شملت 2167 من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و16 عاما في المملكة المتحدة، إلى أنه بحلول سن 11 عاما، أصبحت لدى تسعة من كل 10 أطفال أجهزة هاتف خاصة بهم. 57 في المئة منهم ينامون مع هواتفهم في أسرّتهم، وطفلان من بين كل خمسة (39 في المئة) لا يستطيعان العيش من دون الهاتف.
وقال باحثون إن النتائج تظهر مدى قدرة الهواتف في “السيطرة على حياة الأطفال”.
إدمان الهواتف الذكية بات مصدر قلق وخوف متزايد للعلماء والأطباء، ولكن، هل سيغير ذلك من الطريقة التي نتعامل بها اليوم مع الجهاز الذي أصبح يحتل المكانة الأولى في حياتنا ونستخدمه بمعدل خمس ساعات يوميا؟ يجب أن نعترف بأن الآثار الفيزيولوجية والصحية لاستخدام الهاتف الذكي ما تزال غامضة، أو غير مفهومة بشكل جيد. وحتى في حال ثبتت الأضرار، وصدر حكم الإدانة، هل سنتخلى عن رفقته؟
بالتأكيد لن نتخلى عن استخدامه، ولكن قد نحسن من أسلوب تعاملنا معه. لا توجد أي شكوك حول أضرار “السّم الأبيض”، الملح والسكر، رغم ذلك يتزايد استهلاكنا له. وأصبحت عبارة “التدخين قاتل” المكتوبة على كل علبة سجائر، خالية من المعنى للمدمن على التدخين. ونحن لن نقلع عن استخدام الهاتف الذكي، ولكن نريد أن نتجنب أكبر كمية ممكنة من أضراره. وهذا يعني بالضرورة فهم المخاطر والأضرار أولا، والاتفاق حولها. الاتفاق الذي يبدو بعيدا حتى هذه اللحظة.
ماذا نصدق؟
لتأكيد صعوبة الاتفاق حول مضار وفوائد الهاتف الذكي، نسوق دراستين تحدثت عنهما “ديلي ميل” البريطانية المعروفة باهتمامها بقضايا الأسرة والصحة، وتحظى بتقدير قرائها لما يعرف عنها من موضوعية.
الدراسة الأولى تقول إن إدمان الهواتف الذكية يغير شكل الدماغ البشري وحجمه بطريقة مماثلة لمدمني المخدرات، حيث كشفت صور التقطت بواسطة الرنين المغناطيسي أن الأشخاص الذين يعانون من إدمان الهاتف الذكي، لديهم حجم أقل من المادة الرمادية في بعض الأجزاء الرئيسية من الدماغ.
وأظهرت الصور انخفاضا في نشاط أدمغة مدمني الهواتف الذكية مقارنة بغير المدمنين، كما وقع تسجيل أنماط واتجاهات مماثلة للمادة الرمادية المتضائلة في مدمني المخدرات. وفحص الباحثون الألمان الذين أجروا الدراسة 48 مشاركا باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي، وقالوا إن الأفراد المصابين بإدمان الهاتف الذكي لديهم حجم أقل من المادة الرمادية في الفص الجزيري الأيسر، والخط الصدغي السفلي، والقشرة المجاورة للحصين.
ويضيف الفريق أن هذا هو أول دليل مادي على وجود صلة بين استخدام الهاتف الذكي والتعديلات الجسدية على الدماغ. وكتب مؤلفو الدراسة من جامعة هايدلبرغ “نظرا لاستخدامها على نطاق واسع، وشعبيتها المتزايدة، تتساءل الدراسة الحالية عن ضرر الهواتف الذكية، على الأقل لدى الأفراد الذين هم أكثر عرضة لخطر تطوير سلوكيات مدمنة متعلقة بهذا الاستخدام”.
الدراسة الثانية التي أشارت إليها “ديلي ميل” تقول إن قضاء الوقت في التصفح عبر وسائل التواصل الاجتماعي والرد على الرسائل ليس بالأمر السيء للصحة العقلية، كما اعتقد سابقا.
وعند تحليل بيانات مستخدمي أندرويد وآيفون، وجد الباحثون البريطانيون أن الوقت الذي يقضيه الأفراد على الهواتف الذكية مؤشر ضعيف، في الواقع، على القلق أو الاكتئاب أو التوتر. والمثير للدهشة أن مقدار الوقت الذي يقضيه المستخدم على الهاتف الذكي لم يكن مرتبطا بضعف الصحة العقلية. وبدلا من ذلك، وجدت الدراسة أن الصحة العقلية مرتبطة بالمخاوف بشأن استخدامهم للهواتف الذكية.
ولم يجد الباحثون في الأشخاص الذين سجلوا درجات عالية في أعراض الاكتئاب، أنهم يستخدمون هواتفهم الذكية أكثر من أولئك الذين يعانون من أعراض اكتئاب منخفضة. ويقول الخبراء إن القلق بشأن مقدار الوقت الذي تقضيه على هاتفك الذكي، بدلا من الوقت الفعلي الذي تقضيه عليه، من المرجح أن يكون هو السبب لأي تأثير نفسي سلبي.
جدل عقيم
تقول مؤلفة الدراسة، هيذر شو، من قسم علم النفس بجامعة لانكستر “من المهم النظر في استخدام الجهاز بشكل منفصل عن مخاوف الناس بشأن التكنولوجيا. وهذا لأن الوقت لا يُظهر علاقات جديرة بالملاحظة مع الصحة العقلية، كما تظهره المخاوف”.
المخاطر على الصحة العقلية ليست كل شيء، هناك مخاطر صحية أخرى تحظر من أضرار الضوء الأزرق الصادر عن الشاشات ومن بينها شاشات الهواتف الذكية على صحة الجلد.
وتقول دراسة جديدة إن التحديق في شاشة الكمبيوتر أو الهاتف المحمول يمكن أن يكون ضارا للبشرة تماما مثل التعرض لأشعة الشمس دون حماية. ووجد الباحثون في شركة “يونيليفر” أن 30 ساعة من التعرض للضوء الأزرق من الهواتف الذكية أو شاشات الكمبيوتر المحمول يمكن أن يزيد من مستوى الالتهاب في خلايا الجلد بنسبة 40 في المئة.
هناك فريق آخر يعتقد أن الجدل حول مخاطر الهواتف الذكية عقيم، وأن هذه التكنولوجيا ستصبح مهملة وقديمة بحلول 2020. وأن التطورات في مجال التقنيات مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي والإلكترونيات القابلة للارتداء ستخلق جيلا جديدا من الأجهزة التي ستغير حياتنا اليومية أكثر بكثير مما فعلته الهواتف الذكية.
من هؤلاء جاك أولدريتش، عالم مستقبلي ومؤلف ومحاور يساعد رجال الأعمال على تحليل كيفية فهم الاتجاهات الناشئة والاستفادة منها، فهو يرى “أن التحول الذي سنشهده في مجال التكنولوجيا سيتمثل بالانتقال من الاتصال بالإنترنت إلى العيش بداخلها”.
وتنبأ براد بيرينس، كبير مسؤولي قسم التكنولوجيا في مركز المستقبل الرقمي في كلية أننبرغ للاتصالات والصحافة في جامعة جنوب كاليفورنيا بأن “الهواتف الذكية ستفسح المجال لشبكات المناطق الشخصية وهي مجموعة من التجهيزات الصغيرة المخفية داخل خرزة قلادة مثلا أو مدمجة في النظارات والعدسات اللاصقة”.
وستستخدم هذه الأجهزة “تقنية الواقع الافتراضي والواقع المعزز لعرض المعلومات في مجال رؤيتنا ما يلغي حاجتنا إلى الشاشة، ومثلما نتحكم اليوم في التطبيقات المتواجدة على الهواتف الذكية من خلال تحريك أصابعنا ضمن مساحة الشاشة سنكون قادرين في المستقبل على التعامل مع الجيل الثاني من شبكاتنا الشخصية بواسطة الأوامر الصوتية والإيماءات في الهواء”، وقد لا تصبح خاصية الكتابة مهارة ملغية تماما لكنها ستصبح نادرة يوما ما مثل شخص يكتب بيده كتابة أنيقة باستخدام قلم حبر.
وأفاد أولدريتش “مثلما لا يمكنني الآن الكتابة بالسرعة التي يكتب بها أطفالي فلن يتمكنوا أيضا في المستقبل من القيام بالإيماءات بنفس سرعة الأجيال الأقل منهم عمرا في ذلك الوقت”.
نحن نعرف اليوم ما هي الفوائد التي جنيناها ونجنيها من استعمال الهاتف الذكي، ولكن مازال الشك قائما حول الأضرار المترتبة على هذا الاستخدام، وإلى أن يحسم الجدل حول مخاطر الصحة الجسدية والعقلية، وهو أمر قد يطول، ينصح الخبراء بالقيام بتمارين ذهنية لتحسين الذاكرة مثل العد اللفظي والعد بترتيب عكسي وحل الألغاز والكلمات المتقاطعة.
صحيفة العرب