مع ارتفاع تعداد السكان العالمي، وزحف المدن الآخذة في الاتساع على الأراضي الخصبة، تزداد صعوبة إنتاج الغذاء الكافي للجميع. وبحلول عام 2050، من المتوقع أن يرتفع تعداد سكان المدن بمقدار يزيد عن ضعف تعداده في عام 2000، وأن يقطن هؤلاء السكان على مساحة من الأراضي الحضرية تبلغ ثلاثة أضعاف المساحة الحالية. وسوف يفقد العالم ما يقرب من 2% من أفضل أراضيه الصالحة للزراعة، معظمها في قارتي آسيا، وأفريقيا، حيث توجد المدن الأسرع نموًّا.
ولذلك، فلا عجب في إسراع الحكومات إلى حماية الأراضي الزراعية، والحدّ من الزحف العمراني، إذ يُحظر على البرامج الفيدرالية الأمريكية البناء فوق الأراضي الزراعية عالية القيمة. كما تعمد الصين إلى استصلاح الأراضي الطبيعية، عوضًا عن الفاقد من الأراضي الصالحة للزراعة التي تستولي عليها مشروعات التنمية العمرانية.
بيد أن الحد من خسارة الأرض الزراعية لا يعالج سوى نصف المشكلة (توفير الغذاء)، لكن ثمة مشكلة أكبر، ألا وهي الطلب الآخذ في الارتفاع على الأغذية، وعلى المنتجات الحيوانية بوجه خاص، إذ يحصل الأمريكيون، والأوروبيون على نسبة يتراوح مقدارها ما بين 60 و80% من احتياجاتهم من البروتين من اللحوم، والبيض، ومنتجات الألبان. وتشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة «الفاو» FAO إلى أن الصينيين يستهلكون حاليًّا إجمالًا نصف هذه الكمية من البروتين، بل إنّ الأنظمة الغذائية الموجودة في مدن العالم النامي أصبحت أكثر شبهًا بنظيراتها في البلدان الغربية.
تُظهِر بيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة أن الاستهلاك العالمي السنوي للحوم يكاد يكون قد تضاعف منذ ستينيات القرن الماضي؛ من 23 كيلوجرامًا للفرد في عام 1961 إلى 43 كيلوجرامًا للفرد في عام 2013. ويستهلك سكان المدن في الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا – على سبيل المثال – من اللحوم ومنتجات الألبان أكثر من المتوسط العالمي لاستهلاك سكان الريف بخمسة أمثاله.
كما يهدر سكان الحضر كميات أكبر من الغذاء. ففي شنجهاي، يتخلص 80% من الأُسَر، و40% من المطاعم من أغذية صالحة للأكل، تصل نسبتها إلى 12% من إجمالي إمدادات الغذاء، في حين تنخفض هذه النسبة في المناطق الريفية إلى 2% فقط. أما على الصعيد العالمي، فتتراوح نسبة هدر الغذاء ما بين 30 إلى 50%.
تؤثر جميع هذه التوجهات في الأمن الغذائي. كما تفتقر تربية الماشية إلى الكفاءة، إذ إن إنتاج كيلوجرام واحد من اللحم يستهلك 3-8 كيلوجرامات من الحبوب، وهو ما من شأنه استهلاك المحاصيل التي كان من الممكن أن تمد البشر بالغذاء، كما إن إمداد البشر بالكميات ذاتها من الطاقة والبروتين من خلال المنتجات الحيوانية يتطلب مساحات من الأرض الصالحة للزراعة تفوق أربعة أمثال نظيراتها في حال الاعتماد على نظام غذائي نباتي6. ويُستَخدم ما يقرب من 85% من الحبوب التي تنتجها أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية كعلف للحيوانات، بينما تصل هذه النسبة في الصين إلى 65%. وتتسبب الماشية في أكثر من نصف إجمالي التلوث الزراعي2، ناهيك عن أن الاستهلاك المفرط للحوم مرتبط بالإصابة بالسمنة، وداء السكري، وأمراض الشرايين التاجية بالقلب.
ومع ارتفاع مستويات المعيشة، وتفاقُم التوسع الحضري، تتسبب الأنظمة الغذائية المتغيرة في منع الاستفادة بمساحات أراض أكثر مما تتسبب به مشروعات التطوير الحضري نفسها. فعلى الصعيد العالمي، تشير الإحصائيات إلى أنه بين عامي 1990، و2010، خُصِّصَت مساحات من الأراضي الصالحة للزراعة لإنتاج الماشية (8%)، تساوي أربعة أمثال المساحات المفقودة بسبب النمو الحضري (2%). وإذا استمرت الأنظمة الغذائية في التغير، فإننا سوف نحتاج مزيدًا من الأراضي الصالحة للزراعة لإنتاج علف الحيوانات، وسوف تُزال الغابات، وسوف تتحول المساحات الطبيعية الأخرى إلى مَزارع.
لذلك، ينبغي على صناع القرار السياسي إدارة المدن والمناطق الريفية معًا، لا بشكل منفصل؛ وذلك لضمان التعامل مع عمليات إنتاج الغذاء، واستهلاكه، والتخلص منه كمنظومة واحدة. كما ينبغي على السياسات كبح جماح الزحف العمراني؛ لتوفير الأراضي اللازمة للزراعة، والحث على عدم الإكثار من تناوُل اللحوم.
مواجهة المدّ الحضري
يشكل التوسع الحضري تهديدًا على الأمن الغذائي بطريقتين؛ الأولى تتمثل في الإنتاج المُهدر. فعلى سبيل المثال، تقع مدينة تشنجتشو – في سهل شمال الصين – بمنطقة تشتهر بكونها المُنتِج الأكبر للغذاء في الصين؛ ومنذ عام 1990، ازداد حجم هذه المدينة بمقدار يربو على أربعة أمثال ما كانت عليه (لتبلغ مساحتها اليوم 501 كيلومتر مربع)، بينما فقدت مدينة دلهي الهندية 11% من أراضيها الصالحة للزراعة منذ عام 2001.
وقد تدَخَّل واضعو السياسات؛ لإبطاء وتيرة هذه الخسائر، ولاستصلاح الأراضي لأغراض الزراعة، فبين عامي 2000، و2010، نجحت الصين في زيادة مساحة رقعتها الزراعية بنسبة %3، وذلك بعد تحويل ما يزيد على 4 ملايين هكتار من الأراضي غير المزروعة، والغابات، والأراضي العشبية، والأراضي الرطبة إلى أراض صالحة للزراعة. لكن غالبًا ما تكون الأراضي الزراعية المستصلَحة أقل جودةً من الأراضي التي أُنشئت فوقها المدن، إذ قد تكون الترب جافة، ومفتقرة إلى العناصر المغذية، وقد تكون الأراضي مجزأة، أو منحدرة، أو ذات محتوى عالٍ من الملح، مما يصعِّب مهمة زراعتها.
وتمنح بعض الحكومات الأولوية للنمو الحضري، مع الحد من التنمية العمرانية بالريف، ويمكن لمثل هذه السياسات أن توفر الأراضي اللازمة للزراعة؛ وذلك بوقف زحف الإنشاءات الشائع في المناطق الريفية. بيد أنه في عام 2010، زحفت الصين عمرانيًا على مساحات من الأراض الريفية، فاقت بأربعة أمثال المساحات التي أُنشئت فوقها مبانٍ في المدن، بالرغم من أن أقل من نصف سكانها يعيشون في المناطق الريفية.
وبدءًا من عام 2009، دفعت الحكومة الصينية آلاف الدولارات للعمال المهاجرين إلى المدن، بغرض هدم المنازل الريفية التي هجروها. ومن المتوقع بحلول عام 2030 عودة مليون هكتار من الأراضي الريفية إلى النشاط الزراعي بهذه الطريقة. ويُذكر أن اليابان اتبعت استراتيجيات مشابهة منذ عشرينيات القرن الماضي.
ويتيح دمج المساحات الكبيرة من الأراضي الريفية معًا استعمال المزيد من أساليب الزراعة المكثفة، كما يزيد من إنتاج المحاصيل الزراعية. أما المَزارع الصغيرة، فيتعين عليها استخدام كميات أكبر من الأسمدة، ومبيدات الآفات؛ لزيادة محاصيلها، وهو ما يُسفر عن ضرر وتلوث بيئي. ويمكن للتنمية الحضرية، والصناعية أن تعززا من إنتاج الغذاء بطرق أخرى؛ كتوفير الأسمدة، ووسائل الري، وبالإنتاج الخصيب من المحاصيل الزراعية المتنوعة.
معضلة اللحوم
يمثل استهلاك الغذاء الجانب الآخر من المشكلة، إذ إن تقفي آثاره أصعب، وتندر التدخلات السياسية لمعالجته، ولكن إدارة استهلاك الغذاء تُعَد أداة أكثر فاعلية في تحقيق الأمن الغذائي، مقارنة بحماية الأراضي الزراعية فقط.
إنّ التحول العالمي نحو الأنظمة الغذائية الغنية باللحوم منذ ستينيات القرن الماضي يعني تخصيص 240 مليون هكتار إضافية من الأراضي الصالحة للزراعة حول العالم (أي 15% من إجمالي مساحة هذه الأراضي)، لزراعة علف الحيوانات، وذلك مقارنًة بالمساحة المطلوبة، لو لم تتغير الأنظمة الغذائية. وإذا استمرت هذه التوجهات حتى عام 2030، فسوف يلزم توفير القدر نفسه من المساحة مرة أخرى. وبحلول هذا الوقت، نتوقع أن تضطر الصين إلى زيادة رقعتها الزراعية بنسبة 40%، مقارنًة بمستويات عام 2010، لتصل هذه المساحة إلى 227 مليون هكتار (انظر: “أزمة الصين الغذائية”).
وبالنظر إلى أن المدن الصينية تهدر 18 مليون طن من بقايا الطعام سنويًّا، فإن التقليل من كميات الطعام المهدر بمقدار الثلاثة أرباع من شأنه أن يقلص المساحة المطلوبة من الرقعة الزراعية إلى 200 مليون هكتار.
لكن يمكن بذل المزيد من الجهود.
فحصر الحد الأقصى من السعرات الحرارية التي يحصل عليها الصينيون من تناوُل المنتجات الحيوانية عند 40% (حسبما تشير المبادئ التوجيهية الوطنية للنظم الغذائية)، ورفع كفاءة استهلاك المواشي للمواد الغذائية، قد يساعدان في حل المشكلة. فحتى التغيرات الطفيفة في النظم الغذائية لها تأثير كبير؛ إذ يمكن إنتاج أربعة أمثال كمية الغذاء النباتي في المساحة المخصصة لرعي الحيوانات؛ في الوقت الذي يصل فيه إلى الإنسان 20% فقط من المواد الغذائية المستخدَمة كعلف للحيوانات.
قد يقل إنتاج المحاصيل في البلدان متوسطة الدخل كالصين بنسبة تتراوح بين 10، و40%، عنه في نظيرات هذه البلدان من الدول المتقدمة، نظرًا إلى أن صغار المزارعين في البلدان الأقل تقدمًا يفتقرون في العديد من الأحيان إلى أحدث المعلومات والوسائل الزراعية؛ مثل الري، والآلات. وبرغم هذا، فبوسع الصين أن تلبي احتياجاتها من الطعام، والتغذية حتى عام 2030 باستخدام مساحات أقل من الأراضي من تلك التي توظفها حاليًا، وذلك بالتركيز على المحاصيل التي تُزرع من أجل الاستهلاك البشري المباشر، وتحسين إنتاج المحاصيل، بحيث يضاهي المحاصيل الأوروبية.
أربع خطوات
ينبغي على الحكومات اتخاذ أربع خطوات للتخفيف من وطأة التوسع الحضري على الأمن الغذائي.
بادئ ذي بدء، على الحكومات أن تدشن حملات للتشجيع على اتباع الأنظمة الغذائية المثالية، وتقليص كميات الطعام المهدر. فعلى سبيل المثال، روَّج العديد من الجامعات الصينية لما يسمَّى بـ”هرم النظام الغذائي المتوازن” balanced diet pagoda في مطاعمها، وهو نظام غذائي يوصي باعتماد الأشخاص في الأغلب على تناوُل الحبوب، والخضراوات، والفواكه، واستهلاك كميات أقل من اللحوم، والبيض، والحليب، والزيوت. كما انطلقت حملة في شنجهاي، تحث قاطني هذه المدينة على عدم إهدار الغذاء. وأشار أحد التقارير إلى ضرورة تخفيض الاتحاد الأوروبي لاستهلاكه من اللحوم والألبان بمقدار النصف بحلول عام 2050 (see go.nature.com/2mddbjb). ويتوجب على العلماء، وخبراء الصناعة، أن يطوروا أساليب لحفظ الأغذية الطازجة لفترة أطول، بما في ذلك تحسين عملية التبريد. ولا بد من تشجيع مبادرات مشاركة الطعام، مثلما يحدث الآن في كثير من المدن؛ ومن بينها: لندن، ونيويورك، وملبورن، وشنجهاي.
ثانيًا: يجب على واضعي الخطط إعطاء الأولوية لتطوير المناطق الحضرية على رقعات صغيرة، ولجهود دمج الأراضي الزراعية معًا، على حد سواء. ثالثًا: قد تبرز الحاجة إلى تدريب المزارعين وتمويلهم؛ من أجل تمكينهم من التعامل مع المساحات الأوسع، وزيادة إنتاجية المحاصيل إلى أقصى حد ممكن، وتقليل المواد المستخدمة في الزراعة إلى أدنى المستويات. ويتعين على الحكومات ضخ الاستثمارات لتحسين عمليات الري، وبناء الطرق، وتوفير الآلات. ولا بد من عقد تعاون بين المزارعين، والعلماء، لتبادل المعارف، وتحديث المهارات؛ في سبيل اتباع أفضل الممارسات عند اختيار أنواع المحاصيل، وأساليب التسميد والري.
وأخيرًا، يجب تحسين طرق تربية الماشية، ومخاليط العلف في البلدان الآخذة في التوسع الحضري؛ لرفع كفاءة استهلاك الحيوانات للمواد الغذائية، ولتضاهي الحيوانات تلك التي تُربَّى في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا. وعلى الحكومات أن تعطي حوافز لمربِّي الماشية؛ لتشجيعهم على الانتقال من إنتاج لحوم الأبقار والخنازير إلى إنتاج الحليب، والدواجن، والأسماك، ذات الأثر البيئي الأقل. ولا بد من تشجيع زيادة استخدام مخلفات المحاصيل كعلف للحيوانات. ومن الضروري إدارة المراعي على وجه أفضل، لزيادة إجمالي المعروض من منتجات الحيوانات المجترة للغذاء، لا سيما استخدام أنظمة الرعي الموسع في المساحات غير الصالحة لإنتاج المحاصيل.
على ضوء ما نشهده من موجة التوسع الحضري التي تغزو كوكبنا، فإن تنظيم الطلب على الغذاء، جنبًا إلى جنب مع تحسين الإمداد منه إلى المستوى الأمثل، والقضاء على الإهدار، هو الطريق الوحيد لضمان توفير الغذاء الكافي للجميع.
أزمة الصين الغذائية
شهدت الأراضي الصالحة للزراعة توسعًا منذ عام 2009، نتيجة لسياسة تنص على هدم المنازل الريفية التي تركها العاملون المهاجرون إلى المدن، لكنْ قد يُستوجب زيادة مساحة هذه الأراضي بنسبة 40% تقريبًا بحلول عام 2030، وذلك لتوفير الغذاء لسكان الحضر الذين يزدادون ثراءً.
nature arabic