عصر "الأردوينو"

الرئيسية » إعلام ورقميات » عصر “الأردوينو”

عصر "الأردوينو"

في إحدى التجارب، تجلس امرأة وهي تراقب فرشاة على طاولة أمامها، تدلِّك ببطء يدًا مطاطية، فتشعر يدها المخفية من المشهد بالشعور ذاته. ومن ثم، تعتقد المرأة أن اليد المطاطية هي يدها هي

يُمثِّل وَهْم اليد المطاطية هذا حيلة من حيل العقل، لكنه أيضًا حيلة تصميمية؛ فهو ينشأ عادة لدى أناس كرروا بحذر استخدام الفُرَش لتدليك كل من اليدين الحقيقية والمطاطية في الوقت نفسه. وقد قامت إسا راو – وهي طالبة في مرحلة الدكتوراة، تدرس علم النفس بجامعة جلاسكو بالمملكة المتحدة، وتستخدم هذه الطريقة لفهْم كيفية ارتباط الناس بأجسادهم – بصناعة أداة آلية، تُصْدِر المحفِّزات من دون مساعِد مدرَّب، وهي مبنية في جوهرها على منظِّم صغير من نوع “أردوينو”.

تُعتبر لوحات “أردوينو” واحدة من عدد متنام من أجهزة الحوسبة منخفضة التكلفة، والمجردة من جميع العناصر غير الأساسية، والقابلة للضبط حسب الرغبة، التي غَيَّرَت من شكل مجال الإلكترونيات التي تصنع في المنزل، وفقًا لأساليب “اصنعها بنفسك” الشهيرة. وهي – بشكل متزايد – تغيِّر شكل مجتمع البحوث أيضًا (انظر: “مسيرة الحواسيب الصغيرة“). تتوفر تلك المنظومات بأسعار تبدأ من أربعة جنيهات استرلينية للوحة الدارات الأساسية (ما يعادل خمسة دولارات أمريكية)، أو حوالي 50 جنيهًا استرلينيًّا لمجموعة مركّبة تضم وحدة لتزويد الطاقة، وعلبة، وكابلات، لا تحتوي إلا على القليل مما هو غير ضروري، كما يمكن لمُنْحَنَى التعلم الخاص بها أن يكون شديد الانحدار. ومع ذلك، فإن أجهزة “أردوينو”، والأجهزة المشابهة لها – مثل “راسبيري باي” Raspberry Pi – تحمل في لوحاتها الصغيرة قدرًا كبيرًا من الطاقة؛ ما يوفر فرصًا هائلة لعمليات التشغيل الآلي، والتشبيك، وجمع البيانات وتحليلها.

وبالنسبة إلى الباحثين، فيمكن لتلك الخصائص أن تُترجم إلى مزايا اقتصادية وعملية، إذ يمكن للمستخدمين وضع تلك المنظومات في مساحات صغيرة جدًّا، واستخدامها من دون شاشات، أو لوحات مفاتيح، وشراؤها بالجملة، ووضعها في أجهزة مستقلة تحتاج أن يتم أَخْذها إلى مواقع نائية، (ونقل البيانات منها). وكل ما يلزم لذلك هو بعض المهارة.

الخبرة ليست ضرورية

صحيحٌ أن الباحثين منذ عقود يقومون بتفصيل الحواسيب، وفقًا لمتطلباتهم، وكذلك إدماجها في تجاربهم، إلا أن سوق “الحواسيب أحادية اللوحة”، الصغيرة والرخيصة، قد ازدهرت في السنوات الأخيرة فقط، فحاسوب “راسبيري باي” – وهو حاسوب مكتمل، يمكنه أن يعمل بنظام التشغيل “لينُكس” Linux – ظهر في عام 2012، وبحلول شهر سبتمبر من عام 2016، كان قد بيع منه 10 ملايين جهاز. اشتهرت لوحات “أردوينو” بشكل مماثل منذ إطلاقها في عام 2005، وهي لوحات صغيرة قابلة للبرمجة، وليست حواسيب. ومن بين ملحقاتها التي تُباع في السوق: كاميرات، وأجهزة استشعار للحركة، ومقاييس لدرجة الحرارة، ومحولات البلوتوث، حتى إنّ ثمة منظومة تحتوي على كل شيء، طُوِّرت على محطة الفضاء الدولية؛ من أجل مشروع واسع النطاق. وتتضمن تلك المنظومة جهاز “جيروسكوب”، ومقياسًا للتسارع، ومقياسًا للمغناطيسية، ومجسات لقياس درجة الحرارة، والضغط الجوي، ودرجة الرطوبة.

وهنا على الأرض، تم استخدام أجهزة “راسبيري باي”، ولوحات أردوينو، وأجهزة مشابهة أخرى؛ لصنع مسجلات صوت تعمل تحت الماء من أجل البحوث البحرية، وروبوتات لتجميع أدوات التحرير الجيني، ومنظومات تستطيع بشكل سريع تحديد المُمْرِضات المقاوِمة للأدوية في عيِّنات بشرية.

يقول هاكهو لي – الباحث في منظومات التشخيص الطبي بجامعة هارفارد في كامبريدج في ماساتشوستس، الذي قام بتطوير منظومة لتشخيص إصابات العدوى البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية – إنه حاول في البداية إنشاء تلك المنظومة باستخدام هواتف ذكية تعمل عمل الحواسيب المركزية، إلا أن الهواتف كان يصعب تفكيكها وإعادة ضبطها. أما المنظومات التي مثل “أردوينو”، و”باي”، فهي ملائمة جدًّا للضبط وفق الحاجة، ما يجعلها مثالية للإدماج في أجهزة الاستشعار العلمية.

ويقول: “إن نظام أردوينو نظام مثالي في هذه الحالة، فله بالفعل تشكيلات كثيرة مختلفة، كما أنه نظام تركيبي. ويعني ذلك أنني لو أردتُ إضافة خاصية البلوتوث، فإن كل ما عليَّ فِعْله هو شراء الوحدة اللازمة، وتركيبها في اللوحة الأم”.

ورغم تاريخ لي الطويل مع الأجهزة والإلكترونيات، فإنّ خبرة كخبرته هذه ليست ضرورية؛ إذ إن طبيعة هذه الأجهزة القائمة على فكرة التوصيل والتشغيل المباشر، جذبت الباحثين الذين ليست لديهم خبرة سابقة في الإلكترونيات، أو البرمجة. من السهل تحويل لوحة “راسبيري باي” إلى حاسوب يعمل، بالقدر نفسه من السهولة التي ينطوي عليها إدخال بطاقة ذاكرة (SD) محمَّلة بنظام تشغيل “باي” في المكان المخصص لها، وتوصيل شاشة، ولوحة مفاتيح، وفأرة، ووحدة الإمداد بالطاقة. أما برمجة الجهاز، فتتطلب بذل جهد أكبر بعض الشيء، لكن التوصيفات التفصيلية المتاحة على الإنترنت من شأنها أن تساعد معظم الناس بالقدر الكافي.

“بإمكانك استغلال شيوع تلك الأجهزة، فهي لا تزال تحمل في جعبتها الكثير”.

وبالفعل، صُمِّم “راسبيري باي” – في الأصل – لتعليم البرمجة للأطفال في المدارس البريطانية. تتعامل أجهزة “باي” و”أردوينو” بلغات مبنية على اللغة C++، ولذا فإن المعرفة المسبقة لتلك اللغة البرمجية أمر مفيد، لكنه ليس ضروريًّا للانطلاق، حسبما يقول تاكيو كاتسوكي، وهو باحث بمعهد كافلي للمخ والعقل، الذي هو جزء من جامعة كاليفورنيا في سان دييجو. ويضيف قائلًا: “اختر مشروعًا، وابدأ اللعب والتجريب”. (أحد الاحتمالات هو أن تنشئ تنويعة من تنويعات التمرين “أهلا بالعالم!” المألوف لدى المبرمجين. والهدف عادة هو إظهار هذه الرسالة على الشاشة. أما هنا، فالفكرة هي توجيه ضوء “ليد” LED المثبت على اللوحة، كي يومض مشتعلًا ومنطفئًا).

وضع كاتسوكي منظم “أردوينو” وسط منظومة من تطويره، أسماها: “فلايسبشن” Flyception، تُمكِّن الباحثين من مراقبة نشاط الدماغ في ذبابات الفاكهة الطليقة، من نوع Drosophila، استجابةً لمحفز ما. يتحكم المعالج في تشغيل الكاميرا، إضافة إلى وظائف أخرى. ويقول كاتسوكي: “إن القدرة على مزامنة عدد كبير جدًّا من الأجهزة الميكانيكية والإلكترونية مع التسجيلات التصويرية والسلوكية لدينا، ضمن حزمة سهلة الاستخدام، تجعل ]الأردوينو[ خيارًا مغريًا”.

دفعة أولى من المال

قبل أن يبدأ الباحثون في بناء منظوماتهم، عليهم أن يقرروا ما يجب شراؤه من سوق غدت مزدحمة بشكل مذهل. تتوفر حاليًّا ثلاثة أجيال من “راسبيري باي” الأساسي، إضافة إلى نسخة أساسية من “باي زيرو” Pi Zero، سعرها 5 دولارات، ونسخة أخرى منخفضة الطاقة. وتأتي لوحات أردوينو بمزيد من الأشكال أيضًا. وهناك ألواح “جاليليو” Galileo و”إديسون” Edison من شركة “إنتل” Intel، وأجهزة “بنانا باي” Banana Pi مفتوحة المصدر، و”أودرويد” Odroid (القائم على نظام التشغيل “أندرويد”)، وغير ذلك الكثير.

تتضمن عملية اختيار جهاز ما التفكير برويّة في ثلاثة متغيرات، حسبما يقول باولو دي سوزا، الذي يعمل على تقنية وأنظمة الاستشعار الدقيق في منظمة الكومنويلث للبحوث العلمية والصناعية في أستراليا، وهي وكالة بحثية حكومية في كانبرا. وتلك المتغيرات هي: التكلفة، والقدرات، والحجم، حسبما يقول. ويضيف: “عمومًا، عليك أن تأخذ اثنين من الثلاثة، لأنه من الصعب أن تحصل على تكلفة منخفضة، وحجم صغير، وقدرات عالية في جهاز واحد”.

على سبيل المثال، عمل دي سوزا بآلات مستقلة، بما في ذلك الغواصات والطوّافات، التي يجب أن تكون ذات كفاءة في استهلاكها للطاقة، وقادرة على معالجة بيانات أجهزة الاستشعار المعقدة. اختار فريقه جهاز Odroid XU3 (الذي حل محله الآن XU4، البالغ سعره 60 دولارًا)، وهو أغلى بكثير من جهاز “باي”، لكنه أقوى منه بكثير أيضًا. أما بالنسبة إلى أحد مشاريع دراسة النحل، فقد استخدم لوحة “إديسون” من شركة “إنتل”، التي تتطلب طاقة أقل، ويمكنها حتى أن تعمل بالطاقة الشمسية.

وعلى العلماء أن ينظروا أيضًا في الكيفية التي ستتواصل بها حواسيبهم مع العناصر الأخرى في تجاربهم. يتصل “راسبيري باي” بشاشات عادية، ولوحات مفاتيح، وفأرات، بواسطة وَصْلات USB. أما لوحات “أردوينو”، فلكونها معالجات صغيرة، يجب أن تكون موصولة بالحاسوب بواسطة كابلات، حتى يمكن برمجتها.

ولا تمتلك جميع الأجهزة الإمكانات نفسها؛ فمعظمها – على سبيل المثال – يستقبل مدخلات عبر منفذ USB صغير، لكن تُوجَد في بعضها أيضًا خواص البلوتوث، والإنترنت اللاسلكي (Wi-Fi)، اللذين قد يصبحان مهمَّين إذا كنت ترغب في إجراء تجربة يمكنها إرسال بياناتها إلى حاسوب آخر، لتحليلها مثلًا، أو تضم إليها كاميرا، أو جهاز استشعار خارجيًّا؛ لإجراء دراسات أكثر تعقيدًا. وفي دراسة دي سوزا للنحل، زُوِّد النحل برقاقات صغيرة تتعرف على الترددات الراديوية، تشغل ماسحًا ضوئيًّا عند مرورها أمامه. ويعالج حاسوب “إديسون” الموجود داخل خلية النحل البيانات الناتجة، ثم يرسلها ليتم تحليلها.

يقول دي سوزا: “انظر في الخيارات المتاحة، وراجع المتطلبات، لترى أيًّا منها يمكنك الاستغناء عنه”، وكن مستعدًا لتحديث معدّاتك؛ لمواكبة تطوُّر النظم. فمثلًا، من أجل مشروع مراقبة النحل الخاص به، هَجَر دي سوزا حاسوبًا آخر أحادي اللوحة، من صنع شركة اسمها “ليداتو” Ledato، وانتقل إلى “راسبيري باي”، ومنه إلى “جاليليو”، وأخيرًا إلى “إديسون”.

اقتفِ أثَرَ من سبقوك

بالنسبة إلى المبتدئين، ثمة مزايا للاستمرار في استخدام الأجهزة الأكثر رواجًا، وتحديدًا جهاز “راسبيري باي”، ولوحات “أردوينو”.

تُعدُّ منتديات المستخدمين لكل من هذين النظامين واسعة الانتشار، وتتضمن ملايين المشارَكات، ومئات الألوف من الأعضاء، وهي بذلك توفِّر مصدرًا للمعلومات مفيدًا للمبتدئين. وقد التفت الباحثون إلى تلك المنتديات، طلبًا للمساعدة في أي شيء، بدءًا من استخدام لوحات “أردوينو” لحساب محيط جذوع الأشجار بدقة، حتى تركيب أجهزة استشعار درجات الحرارة، لدرجة أنّ الموقع الإلكتروني الخاص بالمؤسسة التي تقف وراء “راسبيري باي” توجد عليه سلسلة من الفيديوهات، وقائمة بالأخطاء الشائعة؛ لمساعدة الزائرين الجدد على البدء في استخدامه، والاستمرار في ذلك.

يقول ديفيد وايت، عالِم الحاسوب بكلية لندن الجامعية، الذي استخدم أجهزة “راسبيري باي” بكثرة: “إنّ ما لا تريد القيام به فعلًا هو العمل على حل المشكلات التقنية، التي سبق للناس حلها. وستوفِّر الكثير من الوقت، إذا ما لجأتَ إلى الحلول القياسية. وبإمكانك استغلال شيوع تلك الأجهزة، فهي لا تزال تحمل في جعبتها الكثير”.

لكنه ليس من الضروري أن تأتي المساعدة من الإنترنت. يقول وايت: “اجلس مع شخص آخر كان قد عمل بتلك الأجهزة من قبل”، أو – كما يقول دي سوزا – اجلب طلابًا في مرحلة الدراسات العليا لديهم خبرة في مجال تكنولوجيا المعلومات. ويضيف: “الطلاب في مجال تكنولوجيا المعلومات شغوفون بمجالهم، وهم دائمًا على دراية بأحدث الحلول التقنية”.

يجد بعض الباحثين في النهاية أن تجاربهم تتطلب الكثير من مكونات “باي”، أو “أردوينو”، ولذا تَحَوَّل كاتسوكي نحو المتحكِّم “ماي ريو” myRIO، الخاص بشركة “ناشيونال إنسترومنتس” National Instruments، عندما وجد أن الساعة البرمجية في لوحات “أردوينو” خاصته لم تكن دقيقة بالقدر الكافي لنظام “فلايسبشن”. ويخطط لي للترقية إلى جهاز آخر – هو “جيتسون” Jetson من شركة “نفيديا” NVIDIA في كاليفورنيا – وذلك من أجل الحصول على طاقة معالجة أضخم للمشروعات المستقبلية.

وبالنسبة إلى كثيرين آخرين، فإن أجهزة “باي” و”أردوينو” الرخيصة والصغيرة والمتواضعة هي كل ما يحتاجونه. وبالتأكيد، كانت تلك هي تجربة راو، التي قالت: “وكأنّ “أردوينو” قد أُرسل إلينا من السماء حقًّا”.

nature arabic

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *