إن علماء الفلك بصدد بدء المشروع الأكثر طموحًا على الإطلاق لرسم خرائط لبعض المجرّات. فعلى مدار السنوات الخمس المقبلة، سوف يستخدمون تليسكوبًا في أريزونا، عُدِّل، لتُضاف إليه آلاف الأذرع الروبوتية الصغيرة؛ وذلك بهدف التقاط الأطياف الضوئية القادمة من 35 مليون مجرّة، ووضع تصوُّر لتاريخ تمدُّد الكون. وهدفهم الرئيس هو توضيح طبيعة الطاقة المظلمة، تلك القوة الغامضة التي تدفع تمدُّد الكون إلى التسارع بمعدلاتٍ أكبر من أي وقتٍ مضى.

ومن المقرر أن يبدأ تشغيل أداة التحليل الطيفي لرصد الطاقة المظلمة (DESI) لأول مرة في شهر سبتمبر المقبل. وبعد انتهاء فترة الفحص والتشغيل التجريبي، يمكن للأداة البدء في مسح السماء الشمالية بحلول شهر يناير من عام 2020، باستخدام تليسكوب مايال، الذي يبلغ قطر مرآته الرئيسة 4 أمتار في مرصد كيت بيك الوطني بالقرب من توكسون. وتوفر وزارة الطاقة الأمريكية (DOE) حوالي ثلاثة أرباع ميزانية تشغيل الأداة، البالغة تكلفتها 75 مليون دولار أمريكي، وتسهم أيضًا المملكة المتحدة وفرنسا بمبالغ كبيرة في تشغيلها.

وهذه الأداة هي الأولى ضمن جيلٍ جديد من التجارب التي تهدف إلى دراسة تمدُّد الكون في الماضي، وهي تجارب بدأت بعد مرور عقدين على اكتشاف أول دليلٍ قوي على وجود الطاقة المظلمة في عام 1998. وتتضمن التجارب الأخرى مراصد أرضية وفضائية، من المقرر أن يبدأ تشغيلها في عشرينيات القرن الحالي.

وسوف يضع هذا المسح تصوُّرًا لـ11 مليار سنة مضت من التاريخ الكوني. وبذلك.. يمكنه أن يجيب عن السؤال الأول والأهم عن الطاقة المظلمة: هل هي قوة ثابتة عبر المكان والزمان، أم أنَّ تأثيرها تطور عبر الدهور؟

سيتتبع هذا المسح التمدُّد الكوني عن طريق قياس خاصية ميّزت الكون المبكر، تُعرف بالذبذبات الصوتية للباريونات (BAOs). هذه الذبذبات هى تموجات في كثافة المادة، خلَّفت وراءها أثرًا شبيهًا بالكرات في الفضاء، تجمعت حوله المجرّات. وتتوزع المجرات بأعلى كثافة عند مركز هذا الأثر (في منطقة تُسمَّى بالعنقود المجرِّي الهائل)، وحول حوافه، مع وجود فراغاتٍ عملاقة بين هذه المناطق.

تكونت العناقيد المجرِّية الهائلة في مناطق تركزت فيها المادة المظلمة تحت تأثير قوة الجاذبية الخاصة بهذه المادة، وهي مادة غير مرئية، تُحفِّز تكوُّن هذه البِنَى الهائلة.

مسطرة كونية

ظل هذا النمط الأوّلِي لتكوُّن العناقيد المجرِّية دون تغيير منذ ما بعد «الانفجار الكبير» بحوالي مليون عام. ومع نمو الكون، تبعت تمدده تلك الذبذبات الصوتية للباريونات، ووصل عرضها الآن إلى 320 ميجا فرسخ فلكي (ما يعادل مليار سنة ضوئية). ويستخدم علماء الكونيات هذه المسافة كمسطرة؛ فعن طريق تتبُّع حجم الذبذبات الصوتية للباريونات عبر الزمن، يمكنهم وضع تصوُّر للكيفية التي تَمَدَّد بها الكون .

وعن ذلك.. يقول دانيال آيزنشتاين، وهو فيزيائي بجامعة هارفارد في كامبريدج ومتحدث باسم مشروع أداة التحليل الطيفي لرصد الطاقة المظلمة: “النمط في الخرائط ثابت تقريبًا؛ وحجم الكون آخذ في التزايد”.

إنّ تتبُّع الذبذبات الصوتية للباريونات يتطلب خريطةً ثلاثية الأبعاد للمجرّات، وهذه توضع من خلال قياس قيم انزياحها نحو الأحمر، أي استطالة الموجات الكهرومغناطيسية في أطيافها الضوئية. وتُستخدَم ظواهر الانزياح نحو الأحمر كمقياس لسرعة ابتعاد مجرّة ما عن مجرّة درب التبانة، وهو ما يوضح مدى بُعد تلك المجرة.

وكلما قيست قِيَم أكثر من قيم الانزياح نحو الأحمر، زادت دقة تتبُّع الذبذبات الصوتية للباريونات. ووجد آيزنشتاين وآخرون البصمة المميزة للذبذبات الصوتية للباريونات في مسوحٍ مجرِّية سابقة، وبالأخص في مشروع المسح الطيفي لرصد تذبذُّب الباريونات (BOSS) في الولايات المتحدة، و»مشروع المسح المجرِّي للانزياح نحو الأحمر بحقل رؤية مقداره درجتان« Two-degree-Field Galaxy Redshift Survey في أستراليا. وتمكنت تلك المسوح معًا من رسم خرائط ما يقرب من 2.4 مليون مجرة.

إنّ عدد المجرات الذي ستتمكن أداة التحليل الطيفي لرصد الطاقة المظلمة من تتبُّعه سيفوق المسوح السابقة بحوالي عشر مرات. ويقول مايكل ليفاي، وهو فيزيائي في مختبر لورانس بيركلي الوطني (LBNL) بكاليفورنيا، ومدير مشروع الأداة: “في غضون أشهر قليلة، سنحرز إنجازًا أكبر مما تحقق لدينا في مشروع المسح الطيفي لرصد تذبذُّب الباريونات”.

ستحقق الأداة تلك القفزة في الأداء بفضل تصميمها المختلف جذريًّا. فأجهزة المسح – مثل جهاز مشروع المسح الطيفي لرصد تذبذُّب الباريونات – كانت تستخدم أليافًا ضوئية موضوعة في ثقوب، ومحفورة في ألواحٍ معدنية مُصنَّعة خصيصًا، لالتقاط الضوء القادم من كل مجرّة، وتوصيله إلى جهاز تحليل طيفي منفصل؛ لقياس مقدار الانزياح نحو الأحمر، لكن كانت هناك حاجة إلى تغيير الألواح في كل مرة يُقاس فيها قطاعٌ مختلف من السماء، مما جعل هذه العملية بطيئةً.

إنّ أداة التحليل الطيفي لرصد الطاقة المظلمة ستستبدل خمسة آلاف ذراع روبوتي صغير – مصفوفة في نمط مُحكَم على هيئة خلية نحل – بتلك الألواح المعدنية. ويشرح جوزيف سيلبر، وهو مهندس ميكانيكي في مختبر لورانس بيركلي الوطني، قاد تصميم وبناء هذا النظام الآلي للأداة، أنَّه بمجرد سقوط صور المجرّات على المستوى البؤري للتليسكوب، حيث يبلغ عرض الصورة حوالي 100 ميكرومتر، فإنَّ الأذرع الروبوتية تغيِّر بسرعة وضع الألياف الضوئية، لتصبح على مسافةٍ لا تزيد على 10 ميكرومترات من مركز كل صورة.

وبينما كان جهاز مشروع المسح الطيفي لرصد تذبذُّب الباريونات يغيِّر عادةً خمسة ألواح كل ليلة، فإنَّ المستوى البؤري لأداة التحليل الطيفي لرصد الطاقة المظلمة يمكن إعادة تهيئته؛ لرصد قطاع آخر من السماء في غضون دقائق قليلة. والعقبة الرئيسة التي تواجهها الأداة تتمثل في طول مدة التعرُّض المطلوبة لالتقاط ما يكفي من الضوء. وتبعًا للموسم، وظروف الطقس، يمكن للأداة أن تتعرض لضوء الصور 30 مرة أو أكثر كل ليلة، وفي كل مرة منها تأخذ آلاف القياسات لقيم الانزياح نحو الأحمر.

استخدَمت تجارب فلكية أخرى من قبل أذرع روبوتية، لتعديل وضع الألياف البصرية، لكن سيلبر يقول إنَّ “هذه الأداة بالتأكيد هي أكبر أداة تُجرَّب حتى الآن”.

وبالإضافة إلى دراسة الطاقة المظلمة، ستدرس الأداة دور المادة المظلمة في نمو المجرّات والعناقيد المجرِّية، عن طريق قياس الحركة في تلك العناقيد، حسب قول ناتالي بالانك-ديلابرويل، المتحدثة باسم مشروع الأداة، وعالمة الكونيات في «مركز بحوث ساكلاي»، الواقع خارج باريس، والتابع للهيئة الفرنسية للطاقات البديلة والطاقة الذرية (CEA). فهي تقول إنَّ هذا من شأنه أن يوفر “اختباراتٍ مُحكمة” للنماذج المفضلة المقترحة؛ لتفسير الكيفية التي تحفز بها المادة المظلمة نمو البِنَى الضخمة.

nature arabic